إعادة نظر في حجم ونوعية ومصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية في ضوء متطلبات الاستدامة وانجاز التحول الهيکلي " دراسة تحليلية"

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

خبير أول - المعهد العربي للتخطيط -الکويت

المستخلص

مستخلص:
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل وتقييم حجم ونوعية ومصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية ومدى استيفاءه لمتطلبات الاستدامة بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. أخذا في الاعتبار طبيعة التفاوتات التنموية القائمة بين الدول العربية. اعتمدت الدراسة بشکل أساسي على المنهج التحليلي مدعوما بالمنهج الوصفي ونظيره المقارن. هذا بالترکيز على بيانات واحصاءات الدول العربية والحالات المقارنة للفترة 1990 - 2018. توصلت الدراسة الى عديد من النتائج، کان أهمها، عدم کفاية النمو الاقتصادي المحقق في کافة الدول العربية، وعدم ارتکازه على عوامل تدفع من ديمومته حيث واجه تدني في معدلات نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج، وکذلک ارتباطه بقطاعات وأنشطة غير مستدامة تمثل عبئاً على البيئة، کما انه نمواً غير شاملا فقيرا بالوظائف.  قدمت الدراسة عدداً من التوصيات القائمة على السياسات، التي قد يسهم تطبيقها في تأسيس مسار مستدام للنمو الاقتصادي في الدول العربية قادر على استيفاء کافة متطلبات الاستدامة وتدعيم التنافسية وتقليص الفجوات التنموية مع الدول المتقدمة والصاعدة.
کلمات مفتاحية: مصادر النمو – نوعية النمو - التحول الهيکلي – الاقتصادات العربية.
Abstract:
This study aims to analyze and evaluate the size, quality, and sources of economic growth in Arab countries, as well as the extent to which it meets the requirements of economic, social, and environmental sustainability.  Considering development and economic disparities between the Arab countries. The study mainly relied on the analytical approach supported by the descriptive and comparative approaches. focusing on the data period 1990-2018 for Arab countries and comparative cases. The study concluded several conclusions, the most important of which are: the insufficient economic growth achieved in all Arab countries, and its dependence on factors that do not contribute to its sustainability, where the growth rates of total factor productivity (TFP) were found to be negative Or low , along with being associated with unsustainable activities that represent an environmental burden, and Finally, the study found that the economic growth in Arab countries is neither inclusive nor job-rich.  The study presented a package of recommended policies, the implementation of which may contribute to establish a sustainable path for economic growth in Arab countries capable of meeting all sustainability requirements, enhancing competitiveness, and reducing development gaps with developed and emerging countries.

نقاط رئيسية

مقدمـــة:

1-       مشکلة الدراسة

تستهدف کافة دول العالم النامية والصاعدة والمتقدمة على حد سواء تحقيق نمواً اقتصادياً مستمراً، لمواجهة احتياجاتها واستحقاقات نموها السکاني، أو سعياً للحد من إشکالات واختناقات اجتماعية قد تهدد استقرارها، أو لتجسير الفجوات بينها وغيرها من الدول الأکثر تقدماً، أو للحفاظ على رفاهة شعوبها، أو لتدعيم ريادتها مقارنة بباقي دول العالم. ودون شک فإن الحاجة لتحقيق هذا النمو الاقتصادي المرتفع والمستدام في حالة الدول العربية التي تنتمي بشکل عام الى تصنيف "الدول النامية" هو أمر أکثر إلحاحاً، لاسيما، في ضوء معاناة العدد الأکبر منها من تحديات واسعة في مجالات قضايا الفقر والبطالة وعدم کفاية نوعية التعليم ومخصصاته ضمن هيکل الانفاق العام، إضافة لإشکالات ضعف التنويع الاقتصادي واختلالات الموازين العامة والانکشاف على الخارج.

في هذا الإطار تحددت إشکالية هذه الدراسة في التصدي للإجابة على التساؤل المرکزي التالي: هل النمو الاقتصادي ببعديه الکمي والنوعي في الدول العربية بمختلف تصنيفاتها التنموية مستوفي لمتطلبات الاستدامة؟ ينبثق عن ذلک التساؤل عدد من التساؤلات الفرعية وأهمها: إلى أي مدى يتسم النمو الاقتصادي المحقق في الدول العربية کمتوسط لسنوات الفترة 1990 – 2018 بالکفاية؟ هل تمکنت الدول العربية خلال مسيرتها التنموية من الارتقاء بمساهمة الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج في نموها الاقتصادي؟ هل انعکس النمو الاقتصادي في الدول العربية على التحول أو التغير الهيکلي فيها؟ هل يرتکز النمو الاقتصادي في الدول العربية على هياکل وانشطة إنتاجية أعلى قيمة وتقانة؟ في ضوء الدور المرکزي لرأس المال البشري والموارد غير الملوسة عموماً في النمو الاقتصادي وفق نظريات النمو الداخلي ونتائج التطبيقات الدولية الحديثة، هل تمکنت الدول العربية من تطوير نوعية رأس مالها البشري؟

2-               أهداف الدراسة

تستهدف هذه الدراسة البحث والتحليل والتقييم في طبيعة النمو الاقتصادي في الدول العربية، وتقييم مصادر نموه، بالترکيز على الفترة الزمنية 1990 – 2018 وذلک سعياً للتأکد من کونه مستداماً وشاملاً، ومستوفي لجوانب الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئة. بما يُمّکن من بلورة المعالجات المطلوبة والتي تتسق مع التباينات التنموية القائمة فيما بين الدول العربية لإرساء نمواً اقتصاديا أکثر استدامة.

الكلمات الرئيسية


مقدمـــة:

1-       مشکلة الدراسة

تستهدف کافة دول العالم النامية والصاعدة والمتقدمة على حد سواء تحقيق نمواً اقتصادياً مستمراً، لمواجهة احتياجاتها واستحقاقات نموها السکاني، أو سعياً للحد من إشکالات واختناقات اجتماعية قد تهدد استقرارها، أو لتجسير الفجوات بينها وغيرها من الدول الأکثر تقدماً، أو للحفاظ على رفاهة شعوبها، أو لتدعيم ريادتها مقارنة بباقي دول العالم. ودون شک فإن الحاجة لتحقيق هذا النمو الاقتصادي المرتفع والمستدام في حالة الدول العربية التي تنتمي بشکل عام الى تصنيف "الدول النامية" هو أمر أکثر إلحاحاً، لاسيما، في ضوء معاناة العدد الأکبر منها من تحديات واسعة في مجالات قضايا الفقر والبطالة وعدم کفاية نوعية التعليم ومخصصاته ضمن هيکل الانفاق العام، إضافة لإشکالات ضعف التنويع الاقتصادي واختلالات الموازين العامة والانکشاف على الخارج.

في هذا الإطار تحددت إشکالية هذه الدراسة في التصدي للإجابة على التساؤل المرکزي التالي: هل النمو الاقتصادي ببعديه الکمي والنوعي في الدول العربية بمختلف تصنيفاتها التنموية مستوفي لمتطلبات الاستدامة؟ ينبثق عن ذلک التساؤل عدد من التساؤلات الفرعية وأهمها: إلى أي مدى يتسم النمو الاقتصادي المحقق في الدول العربية کمتوسط لسنوات الفترة 1990 – 2018 بالکفاية؟ هل تمکنت الدول العربية خلال مسيرتها التنموية من الارتقاء بمساهمة الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج في نموها الاقتصادي؟ هل انعکس النمو الاقتصادي في الدول العربية على التحول أو التغير الهيکلي فيها؟ هل يرتکز النمو الاقتصادي في الدول العربية على هياکل وانشطة إنتاجية أعلى قيمة وتقانة؟ في ضوء الدور المرکزي لرأس المال البشري والموارد غير الملوسة عموماً في النمو الاقتصادي وفق نظريات النمو الداخلي ونتائج التطبيقات الدولية الحديثة، هل تمکنت الدول العربية من تطوير نوعية رأس مالها البشري؟

2-               أهداف الدراسة

تستهدف هذه الدراسة البحث والتحليل والتقييم في طبيعة النمو الاقتصادي في الدول العربية، وتقييم مصادر نموه، بالترکيز على الفترة الزمنية 1990 – 2018 وذلک سعياً للتأکد من کونه مستداماً وشاملاً، ومستوفي لجوانب الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئة. بما يُمّکن من بلورة المعالجات المطلوبة والتي تتسق مع التباينات التنموية القائمة فيما بين الدول العربية لإرساء نمواً اقتصاديا أکثر استدامة.

3-               حدود الدراسة

استقرت الدراسة في تتبعها وتحليلها للمتغيرات محل الاهتمام على الفترة الممتدة منذ العام 1990 حتى العام 2018. على اعتبار أن مطلع التسعينيات قد اتسم بانخراط الدول العربية والدول النامية بشکل عام في تبني مخرجات توافق واشنطن Washington consensus 1989 القائم في مجمله على إرساء السياسات الحکومية الداعمة لقواعد السوق وتوسيع دور القطاع الخاص في الاقتصادات الوطنية وفي دفع النمو الاقتصادي، بما يعطي درجة من التناسق في ترکيبة الهيکل العام للسياسات الاقتصادية التي تبنتها الدول العربية والدول والاقاليم المقارنة خلال تلک الفترة، ومن ثم يساعد في الرصد الدقيق والموثوق لحجم ونوعية التباين في نتائج الأداء الاقتصادي والتنموي فيما بينهما. 

4-               فروض الدراسة

تقوم الدراسة على فرضية أساسية يتم اختبارها تتمثل في أن النمو الاقتصادي ببعديه الکمي والنوعي في الدول العربية بمختلف تصنيفاتها التنموية مستوفي لمتطلبات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

5-               أهمية الدراسة

ترتبط أهمية هذه الدراسة بشمولها لکافة الدول العربية دون استثناء، ولفترة زمنية تمتد لــ 28 عام إضافة لدمجها وتقييمها للنمو الاقتصادي في الدول العربية استنادا لتأصيلات النظرية الاقتصادية وکذلک لما وثقته نتائج الدراسات الدولية الحديثة، وأخيرها طرحها لحزم سياسات قابلة للتطبيق تتناسب وخصوصية تفاوت معطيات الواقع التنموي فيما بين الدول العربية. کذلک مما يدفع من أهمية الدراسة وبحثها وتقييمها لطبيعة ومصادر ونوعية النمو الاقتصادي في الدول العربية. ما أظهرته المتغيرات المواکبة للعام 2020 الممثلة في انتشار جائحة فيروس کورونا المستجد، وکذلک التقلبات والتراجعات المتتالية في أسعار النفط، لاسيما بالنسبة للدول العربية التي تعتمد صادراتها وايراداتها العامة على الهبات والموارد النفطية، من ارتفاع حساسية النمو الاقتصادي ومصادره في الدول العربية للصدمات والأزمات الخارجية. فقد أوضحت توقعات النمو المعدلة لصندوق النقد الدولي في ابريل 2020 عن معدلات سالبة في کافة الدول العربية باستثناء جيبوتي ومصر، اللذان حققتا معدلات نمو ايجابي محدودة بواقع 1.0%، 2.0% لکل منهما على التوالي، ولا يمنع ذلک ملاحظة أن التقديرات السابقة للنمو وفق تقديرات الصندوق الصادرة في أکتوبر 2019 کانت 6.0% لجيبوتي، 5.9% لمصر (IMF,2020). ما يوضح حجم الخسارة في الناتج للعام 2020 لکافة الدول العربية، ويعيد التأکيد على أهمية البحث والتقييم في طبيعة النمو الاقتصادي العربي ومصادره ومدى استقراره واستدامته.

6-               المنهجية

اعتمدت الدراسة بشکل أساسي على المنهج التحليلي بجانب المنهج الوصفي ونظيره المقارن التحليلي. حيث قامت الدراسة بمراجعة التأصيلات القائمة في النظرية الاقتصادية حول موضوع النمو الاقتصادي ومصادره وقدرته على الاستدامة، واسقاطات ذلک لتقييم الواقع القائم في الدول العربية بالترکيز على الفترة 1990 – 2018. وعبر استخدام نتائج الأداء في عدد من الدول والاقاليم المقارنة. بحيث يمکن تحديد أهم مواطن التحدي أو الإشکاليات في واقع النمو الاقتصادي العربي. بما يمهد لإمکانية طرح حزم السياسات القادرة تأمين الاستدامة المطلوبة للنمو الاقتصادي في الدول العربية. ضمن هذا الإطار تقوم الدراسة على سبعة محاور أساسية يقوم الأول منها بمراجعة الادبيات والدراسات السابقة المتعلقة بالنمو الاقتصادي في النظرية الاقتصادية والدراسات التطبيقية والدولية وضمن أهداف التنمية المستدامة SDGs 2030.، وضمن المحور الثاني يتم تحليل وتقييم النمو الاقتصادي في الدول العربية ووتيرة تطوره خلال الفترة 1990 – 2018 وذلک مقارنة بدول واقاليم متقدمة وصاعدة ونامية مختلفة.، وفي المحور الثالث يتم تقييم کفاية التحول الهيکلي في الاقتصادات العربية ومدى مساندته للنمو المستدام.، ويقوم المحور الرابع بتقييم مصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية وذلک في ضوء دلالات نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج TFP. وفي المحور الخامس تقوم الدراسة بالترکيز على تحليل البعد النوعي للنمو الاقتصادي في الدول العربية من خلال استخدام الابعاد المتعلقة بالمستوى التقاني للصادرات ونوعية رأس المال البشري.، ويقوم المحور السادس بتقييم البعد التشغيلي للنمو الاقتصادي العربي. في حين يرکز المحور السابع على تقييم مدى استيفاء النمو الاقتصادي العربي لمتطلبات الاستدامة البيئية. وصولا في الختام لبلورة أهم النتائج والتوصيات. التي تتضمن بلورة لحزم سياسات المعالجة المقترحة لبناء نمو اقتصادي في الدول العربية أکثر استدامة وفق التوجهات العالمية الحديثة.

 

 

أولاً: النمو الاقتصادي في الفکر والتطبيق وفي أهداف التنمية المستدامة SDGs 2030

قام الفکر الاقتصادي والتنموي بجانب الدراسات والبحوث ذات الطابع التطبيقي، وبشکل مواکب لتطور الفکر الاقتصادي ذاته بالسعي لتفسير النمو الاقتصادي وعوامله ومبررات اختلافاته بين الدول أو بين فترة وأخرى لنفس الدولة. وهي الإسهامات التي تراکمت لتعمق الفهم حول ديناميات النمو الاقتصادي وبخاصة على المدى الطويل، منذ إسهامات أدم سميث مروراً بالمدارس الاقتصادية الکلاسيکية والکينزية وکذلک المدرسة النيو کلاسيکية لاسيما إسهامات روبرت سولو Solow and Swan Model. حيث تمت إضافة المکون التکنولوجي لعاملي الإنتاج (المال والعمل) ليسهموا معاً في تحقيق النمو الاقتصادي على المدى الطويل (Solow, R. 1956. , 1957. , Swan T.W. (1956). ولکن مع بقاء العامل التکنولوجي کعامل من خارج النموذج Exogenous Growth Theory. وصولاً  للنظريات الحديثة التي تتبلور حول ارتباط النمو الاقتصادي على المدى الطويل بدور رأس المال البشري والمعارف والتکنولوجيا، فيما يعرف بنظريات أو نماذج النمو الداخلي Endogenous growth theory، التي تربط بشکل أساسي بإسهامات کل من رومر ، ولوکاس والتي تقوم على ارتباط النمو الاقتصادي على المدى الطويل بقدرة الدول على التحرک من اعتماد أنشطتها وهياکل إنتاجها القائمة على الموارد الملموسة/المادية نحو نظيرتها غير الملموسة ممثلة في المعرفة والتقانة ممثلاً في رأس مالها البشري، علاوة على العلاقات والتأثيرات التشابکية التي تؤثر بها تلک المعارف في عوامل الإنتاج التقليدية ممثلة في قوة العمل ورأس المال  (Lucas 1988., Lucas 2015., Romer 1986., Romer, 1990).  ليصبح العامل التکنولوجي أو التقاني أو المعرفي هو مکون داخلي من مکونات نموذج النمو. وعليه يمکن للدول التأثير فيه وتفعيل دوره في النمو من خلال الاهتمام بالبحث والتطوير والارتقاء بنوعية التعليم وإرساء وتطوير المعرفة Knowledge وتجنب إشکالية تراجع عوائد عوامل الإنتاج على المدى الطويل، بما يوفر استدامة النمو الاقتصادي. وقد تواصلت الإسهامات الاقتصادية لاسيما التطبيقية لمحاولة ترجمة هذا المنظور الحديث إلى آليات عمل أکثر تحديداً. يٌشار في هذا السياق إلى إسهامات Hussmann وآخرون الخاصة بالحيز السلعي للمنتجات Product space الهادف لرسم مسار قابل للتطبيق للتحول الهيکلي يدفع من النمو القابل للاستدامة بما يتوافق مع هيکل المزايا النسبية RCA، ضمن تطبيق منهج لما يطلق عليه The Concept of Proximity(Hidalgo et al., 2007. , O'Brien, T., et al, 2017). کذلک انعکس الفهم الدولي للنمو الاقتصادي ورکائزه ونوعيته ضمن الهدف الثامن الذي تبنته الأمم المتحدة SDGS 2030، المتعلق بالعمل اللائق والنمو الاقتصادي. حيث تم التأکيد على أهمية تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، والذي يتضمن بدوره اشتراطات العدالة في تقاسم عوائده وألا يتم ترک أحد في الخلف وشموليته ومحاباته للفقراء Pro Poor Growth وقدرته على خلق الوظائف Inclusive Job – rich growth. بحيث يتم التأکد من قدرة الحکومات على إقرار السياسات التي تستحث النمو ولکن ضمن محدد القدرة على خلق الوظائف اللائقة Decent work التي توازن بين الإنتاجية والأجور وظروف العمل، ضماناً لاستدامة الاقتصاد والمجتمع، ووفق تقديرات خبراء التنمية فإن الدول النامية بحاجة لتحقيق معدل نمو سنوي حقيقي بحدود 7.0% سنوياً وبشکل مستدام (طويل الاجل) للتمکن من تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 بمعنى أن مثل هذا النمو هو مدخل مباشر سيقلص من أعباء وقيود عدة تواجه معظم الدول العربية مثل الفقر والبطالة والمديونية وعجز الموازنات العامة (UNDP,2020., WB,2020., OECD,2014., McKay, A., 2008). وقد زخرت الدراسات التطبيقية المواکبة للنظريات الحديثة للنمو الاقتصادي بعدد واسع من البحوث التي توثق تعدد وکذلک اختلاف الأهمية النسبية لمصادر النمو الاقتصادي فيما بين دول العالم، لاسيما المتغيرات أو المصادر غير الملموسة مثل رأس المال البشري مٌعبراً عنه بدلالات حجم التعليم، کما في دراسة (Cohen and Soto,2007) التي أجريت على95 دولة منها مصر والعراق وسوريا والأردن لبيانات الفترة 1960 – 2000. وکذلک دراسة Gundlach,1996)) التي أکدت على ضرورة أن متغيرات نوعية التعليم وکذلک الحالة الصحية ومستويات التغذية بل والتعليم غير الرسمي وما يرتبط به من مهارات تدفع من إنتاجية المورد البشري.، وجودة التنظيم الحکومي، والاستقرار السياسي، والبناء المؤسسي، والسيطرة على الفساد کما في دراسة (Samarasinghe,2018) التي أجريت على 145 دولة منها 16 دولة عربية من مختلف التصنيفات التنموية وهي الجزائر والبحرين ومصر والأردن والکويت ولبنان والمغرب وعمان وقطر والسعودية وتونس والامارات، وفلسطين وموريتانيا والسودان والقمر. من خلال تحليل بيانات الفترة 2002- 2014. ودراسة (Kaufmann, 2002) التي اعتمدت على بيانات العامين 2000، 2001 لعدد 175 دولة تضم معظم الدول العربية، ودراسة (Acemoglu et al, 2004) التي رکزت على رصد هذه العلاقة بين المؤسسات والنمو والتنمية من زاوية تاريخية مقارنة وبالترکيز على الحالة الکورية.، وغيرها من الدراسات التي تناولت المتغيرات غير الملموسة التي تؤثر في المحصلة في الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج TFP بجانب النمو المرتبط بنمو العمالة ورأس المال.

ثانياً: النمو الاقتصادي للدول العربية: الأداء والتطور والأداء المقارن

حققت الدول العربية في المحصلة خلال الفترة الممتدة منذ العام 1990 إلى العام 2018 معدلات نمو مرتفعة نسبياً مقارنة بالمتوسطات العالمية وبأقاليم العالم الأکثر تقدماً ممثلة في الدول أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. ورغم ذلک فثمة عدد من الملاحظات يجب التوقف عندها في النظر أو التقييم لدلالات هذا النمو العربي. فرغم تحقق معدل نمو متوسطه نحو 4.15% سنوياً في الدول العربية للفترة 1990 – 2018، مقابل معدل نمو متوسط للعالم قدره نحو 3.28%، ولدول الــ OECD نحو 2.13%. إلا أن إقليم مثل إفريقيا جنوب الصحراء والذي يعد أحد أفقر أقاليم العالم وأقلها تنمية وفق معيار التنمية البشرية HDI، أيضاّ قد تجاوز هذين المعدلين، وحقق نمواً قدره نحو 3.6%. کما أن هذا المعدل المحقق عربياً هو أقل کثيراً من المعدل المطلوب وفق تقديرات الأمم المتحدة لتحقيق النمو المستدام القادر على التصدي لإشکالات التنمية المستدامة. کذلک يمکن تفسير الارتفاع النسبي والمقارن لمتوسط النمو الاقتصادي للدول العربية بما أصله الفکر الاقتصادي والممارسة التطبيقية من أن إمکانات النمو تکون أعلى بکثير في الاقتصادات الأقل تطوراً، کما هو الحال في معظم الدول العربية، وإقليم إفريقيا جنوب الصحراء، وغيرهما من الأقاليم النامية، التي لازالت تمتلک قدرات وطاقات غير مستغلة أو لا تستغل بشکل کفؤ، مقارنة بالدول المتقدمة التي أنجزت الجانب الأکبر من توظيفها لطاقاتها ومواردها المتاحة (الأرض، والعمل، ورأس المال). وذلک نتيجة سريان عمل قانون تناقص الغلة في حالة الدول الأکثر تقدماً وفق تأصيلات النظرية النيوکلاسيکية وما عٌرف اقتصادياً بمفهوم الـتلاقي Convergence(Barro and Martin, 1991, 1992).  أما الملاحظة الأخرى الأکثر أهمية فهي ارتفاع التقلبات في النمو الاقتصادي العربي خلال الفترة محل الرصد مقارنة بالمتوسط العالمي، وبنظيره في أقاليم المقارنة. حيث بلغ معدل التقلب في النمو الاقتصادي مُقدراً بالانحراف المعياري لمعدلات النمو المحققة خلال تلک الفترة في الدول العربية نحو 2.67 وهو ما يتجاوز ضعف معدل تقلب المتوسط العالمي للنمو، ونحو ضعف معدل التقلب في الدول أعضاء منظمة التعاون، بل إنه تجاوز المعدل المحقق في إقليم إفريقيا جنوب الصحراء (2.06). ما يظهر ارتفاع التذبذب وعدم الاستقرار في النمو الاقتصادي العربي، ما يهدد من استدامته. أما على المستوى القطري، فقد أظهر تتبع معدلات النمو الاقتصادي خلال الفترة 1990 – 2018 تفاوتات واضحة بين الدول العربية وفيما بينها ودول المقارنة (المتقدمة والصاعدة والنامية).إضافة لعدم تمکن کافة الدول العربية باستثناء "قطر" من تحقيق متوسط للنمو للفترة 1990 – 2018 يتجاوز حدود الــ (7.0%) ذلک المعدل الذي أوصت به تقديرات الأمم المتحدة للاستدامة لحالة الدول النامية (الشکل رقم 1).

 

المصدر: حسابات الباحث استناداً لقاعدة بيانات Conference board (2020)

*: بيانات لبنان وموريتانيا والصين والمغرب ومتوسطات أقاليم العالم استنادا لقاعدة بيانات البنک الدولي – 2019WDI

کما جاءت الدول العربية أيضاً بعيدة عن المعدلات المحققة کمتوسطات لذات الفترة في الدول الصاعدة مثل سنغافورة وماليزيا وکوريا وترکيا. ورغم رصد أن العدد الأکبر من الدول العربية قد حقق متوسطات للنمو تتجاوز تلک المحققة کمتوسط عالمي وکمتوسط للدول أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. إلا أن ذلک الأمر ليس بالمستغرب في ضوء طبيعة ومتطلبات المرحلة التنموية التي تنتمي إليها الدول العربية کما سبق التقديم. من جانب آخر لا يُمکن ذلک الرصد من استخلاص نتائج أو تفسيرات قاطعة لذلک التباين، حيث نجد أن قائمة الدول العربية الأعلى نمواً (على المستوى العربي) تتضمن دولاً ذات موارد نفطية مرتفعة الدخل وتحتل الترتيب الأعلى في التنمية البشرية HDI مثل قطر، ودولاً أخرى لا تتمتع بوفرة في الموارد النفطية، ومتوسطة الدخل ومتوسطة التنمية البشرية مثل لبنان ومصر. وکذلک الحال في قائمة الدول التي تقل عن المتوسط العربي، والتي تضم دولاً ذات موارد نفطية ومرتفعة الدخل والمستوى التنموي مثل السعودية والکويت والإمارات وأخرى ذات موارد نفطية أقل وتنتمي للفئة المتوسطة والمنخفضة الدخل وکذلک التنمية مثل تونس والمغرب وموريتانيا. يتطلب تحليل تلک النتائج مراجعة کافة العوامل المؤثرة على النمو الاقتصادي وفقاً لکل حالة من حالات الدول العربية، والتي ترتبط بکافة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الوطنية والإقليمية والدولية التي واجهتها کل دولة من الدول العربية خلال تلک الفترة، وهي العوامل التي تتباين بشدة بين الدول العربية. إلا أن ما يجب التوقف عنده هو ملاحظة أن معظم الدول العربية لم تحقق المتوسطات المحققة في دول صاعدة ونامية مقارنة مثل الصين وکوريا اللتان ينخفض متوسط دخل الفرد فيهما عن نظيره في العديد من الدول العربية، هذا مع الاخذ في الاعتبار تباين حجم الاقتصاد والمساهمة في الاقتصاد العالمي بين تلک الدول والدول العربية لاسيما تلک التي حققت معدلات نمو أعلى. ففي الوقت الذي مثّل فيه حجم الاقتصاد لدولة مثل الصين نحو 15.86% من الاقتصاد العالمي للعام 2018، فقد اقتصر حجم الاقتصاد العربي ککل على 3.24% فقط من الاقتصاد العالمي لذات العام (world bank,2019). وتجدر الإشارة أن تحليل هذا المتوسط المتحقق للنمو الاقتصادي العربي خلال الفترة 1990 – 2018 اتسم بجانب عدم کفايته بمستويات عالية من التذبذب أو التقلب وواجهت معظم الدول العربية مستويات عالية من التقلب/التذبذب مقارنة بالدول والأقاليم محل المقارنة. وکانت الدول العربية الأعلى نمواً هي ذاتها الأعلى تقلباً لاسيما قطر ولبنان. في حين حققت دول مثل مصر والأردن أقل معدلات التقلب في النمو على مستوى الدول العربية. (الشکل رقم 2).

 

المصدر: حسابات الباحث استناداً لقاعدة بيانات Conference board (2020)

کما يلاحظ أن کافة الدول العربية حققت معدلات تقلب في نموها الاقتصادي بما يتجاوز ذلک المحقق في المتوسطات للعالم وللدول المتقدمة (OECD). کما أن معظمها (دون مصر) حقق معدلات تقلب تتجاوز تلک المحققة في دول وأقاليم نامية وصاعدة مثل جنوب إفريقيا وإقليم إفريقيا جنوب الصحراء. وهي الأمور التي تهدد استدامة النمو في الدول العربية لاسيما في الدول التي تواجه مستويات أکثر ارتفاعا في هذا التقلب والتي تواجه أيضاً مستويات عالية من الإشکالات التنموية الهيکلية إضافة لانخفاض متوسط النمو فيها عن نظيره لمجمل الدول العربية، مثل موريتانيا، والسودان، والمغرب. من جانب آخر ولإلقاء مزيد من الضوء على وتيرة النمو الاقتصادي في الدول العربية خلال الفترة الممتدة منذ العام 1990 إلى العام 2018، تمّ تقسيم تلک الفترة إلى 7 فترات وذلک سعياً لاستخلاص تفسيرات لوتيرة وأنماط هذا النمو على مستوى الدول العربية، بواقع 4 سنوات لکل فترة باستثناء الفترة الأولى التي اشتملت على خمس سنوات (الجدول رقم 1).

جدول رقم (1) متوسطات نمو الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية ودول مقارنة خلال سنوات الفترة 1990 – 2018

الدولة/الفترة

1990/1994

1995/1998

1999/2002

2003/2006

2007/2010

2011/2014

2015/2018

قطر

1.83

10.88

5.67

12.93

2.71

6.34

2.36

ترکيا

3.54

6

0.77

7.54

4.27

7.1

4.69

الإمارات

4.71

5.14

4.76

7.93

-0.23

5.08

2.59

البحرين

3.93

3.04

4.58

6.42

4.14

3.79

2.95

مصر

2.54

5.74

4.09

5

6.02

2.59

4.42

الأردن

4.43

3.62

4.35

6.26

3.78

2.75

2.11

السودان

2.15

6.46

5.43

7.02

2.27

0.25

1.38

تونس

5.07

4.92

3.77

4.8

4.5

1.94

1.66

عمان

4.76

4.06

2.49

1.57

5.19

4.41

2.64

السعودية

6.04

1.69

-0.61

6.62

4.83

5.26

1.78

الکويت

4.72

2.08

1.49

10.77

5.61

4.31

0.41

الجزائر

-0.85

3.39

3.82

4.64

-0.37

3.15

2.55

الولايات المتحدة

2.38

3.77

2.85

3.2

5.03

2.0

2.35

جنوب إفريقيا

0.06

2.58

3.2

4.49

15.19

2.43

0.94

العراق

-15.99

3.11

8.49

6.33

4.76

7.1

3.52

اليمن

4.89

5.24

4.32

4.03

0.64

-1.68

-10.44

اليابان

1.91

1.43

0.76

1.69

4.52

0.93

1.13

سوريا

8.51

3.13

2.11

3.89

0.42

-18.12

-1.66

المصدر: حسابات الباحث استناداً لقاعدة بيانات Conference board (2020)

أظهر هذا التقسيم عدد من النتائج أهمها أن معظم الدول العربية حققت معدلات نمو مرتفعة في الفترات الثلاث الأولى الممتدة منذ العام 1990 حتى العام 2006، في حين شهدت الفترات اللاحقة تراجعاً عاماً في معدلات النمو. وکانت أعلى معدلات التراجع أو التباين بين هاتين الفترتين في دول عربية غير متجانسة في ظروفها ومواردها وطبيعة تحدياتها التنموية. حيث کانت أعلى معدلات التراجع في سوريا واليمن وقطر والسودان والإمارات. ليستمر هذا التباين، ولکن بوتيرة أقل في حالة تونس والأردن والکويت، والجزائر والبحرين. في مقابل ذلک فقد استقرت قيمة متوسط النمو لهاتين الفترتين في حالة مصر، وارتفع هذا المتوسط للنمو في الفترة الأخيرة مقارنة بنظيرتها الأولى في کل من السعودية وعمان والعراق. وکما تمت الإشارة فإن هذا التراجع والتفاوت فيما بين معدلات النمو بين الدول العربية يرتبط بعوامل تتنوع وفق ظروف کل دولة لتتراوح بين تقلبات وتراجع أسعار النفط، أو تداعيات الأزمة المالية العالمية، أو التوترات والصراعات الداخلية أو الخارجية، أو مستويات المؤسسية وکفاءة الإدارة الحکومية أو مزيج بين تلک العوامل. يوضح ذلک أن الدول العربية ذات الموارد النفطية (حالة قطر، والإمارات) وکذلک الدول العربية التي واجهت مستويات عالية من عدم الاستقرار أو الاضطرابات (حالة سوريا واليمن والسودان) قد اشترکوا في ظاهرة تراجع معدلات النمو في الفترات ما بعد العام 2006، مقارنة بالفترات السابقة. کما يلاحظ أن الدول العربية التي تمکنت من تحقيق معدلات نمو أعلى في الفترة الأخيرة مقارنة بالفترة الأولى تتباين في مواردها النفطية وظروفها الاقتصادية ممثلة في السعودية، وعُمان، والعراق. وإن کان التفسير في حالة العراق يرتبط بشکل مباشر بتدني معدلات نموه في سنوات الفترة الأولى لاسيما الفترة 1990 – 1994 التي بلغ فيها نحو (-16.0%) (الشکل رقم 3).

 

المصدر: حسابات الباحث استناداً لقاعدة بيانات Conference board (2020)

مقابل ذلک يوضح الأداء المقارن أن دولاً صاعدة مثل جنوب إفريقيا وترکيا، ودول متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان، حققوا معدلات نمو أعلى في الفترة الثانية ما بعد العام 2006. وذلک رغم ما شهدته تلک الفترة من تداعيات الأزمة المالية العالمية (2007/2008) الحادة على تلک الدول بشکل خاص. ليظهر في المحصلة معاناة النمو الاقتصادي في کافة الدول العربية من إشکالات حقيقية سواء في انخفاض معدلات نموه في بعض الدول، والارتفاع في حدة تقلباته کما في البعض الآخر، وتذبذب وتيرته عبر الفترات الزمنية المتتابعة کما في بعضها الأخر. وجميعها ظواهر لا تُمکن من بناء مسار مستدام للنمو لاسيما في الدول التي تجمع بين أکثر من ملمح من تلک الظواهر.

ثالثاً: کفاية التحول الهيکلي في الاقتصادات العربية ومدى مساندته للنمو المستدام.

إن المتتبع للتاريخ الاقتصادي والتنموي للدول المتقدمة سابقاً ونظيرتيها الصاعدة والنامية لاحقاً، يتبين بوضوح أن نجاح تلک الدول وتقدمها الاقتصادي قد ارتبط بشکل مباشر بقدرتها على تعديل هياکلها الاقتصادية والاجتماعية، ونجاحها في خلق هياکل جديدة أکثر ديناميکية ومواکبةً وحداثةً، وکذلک أکثر استجابة للتغيرات والتطورات في متطلبات المنافسة العالمية. بحيث ينعکس نموها الاقتصادي المرتفع على تحول هياکلها الاقتصاديةstructural transformation، کما أن ذات الهياکل الاقتصادية الجديدة أو المُطورة ستعود لتدفع من هذا النمو في علاقة حميدة متبادلة السببية. فيما أصبح يطلق عليه النمو التحولي Transformative growth أي النمو القائم أو الداعم للتحول الهيکلي(Herrendorf., et.al. 2013). حيث ينعکس النمو الاقتصادي على تغيير ترتيبات الأنشطة الإنتاجية داخل الاقتصاد الوطني، وما يرتبط بها من نمط توزيع وتخصيص عوامل الإنتاج المختلفة ليس فقط بين القطاعات الاقتصادية، بل أيضا على مستوى الأنشطة، والمنتجات، والمناطق، والوظائف (Olga., et. al, 2010). وهي الممارسات التي توثقت تطبيقاً في تجارب النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة قديماً وفي تجارب النمو في الدول الصاعدة لاحقاً. حيث أمکن تمييز أهم مراحل هذا التحول أو التغير في الهياکل الاقتصادية وفق المسار التاريخي لکافة التجارب الدولية (للدول المتقدمة والصاعدة) في تحول هياکل الاقتصاد من القطاعات والأنشطة الأولية مثل التعدين والزراعة إلى التصنيع، ثم التحول من الأنشطة الصناعية المرتبطة بالموارد الطبيعية والکثيفة الاستخدام للعمالة والقليلة المهارة إلى أنشطة صناعية أعلى قيمة ومحتوى تکنولوجي، ثم التحول بعد ذلک صوب زيادة حصة قطاع وأنشطة الخدمات لاسيما الإنتاجية، ثم التحول صوب أنشطة الخدمات الأکثر تضميناً للمحتوى المعرفي أو التکنولوجي. على أن يصاحب هذه التحولات تغير في نوعية الموارد البشرية، والقدرات المؤسسية والتنظيمية، بجانب تغير وارتقاء في إتاحة البنى والمرافق التحتية والإنتاجية المساندة (Frank,2015). وقد توسعت الأدبيات والدراسات التطبيقية لرصد وتقدير العلاقات بين النمو الاقتصادي والتغيير الهيکلي، وبين التغيير الهيکلي ومختلف المتغيرات الاقتصادية مثل النمو والصادرات والإنتاجية والتشغيل. ويتم الترکيز هنا على تلک الدراسات التي سعت لتقدير العلاقة بين النمو الاقتصادي معبراً عنه بمتوسط دخل الفرد والتغيير الهيکلي. حيث توصلت هذه الدراسات إلى قوة وجوهرية العلاقة التي تحکم بين هذين المتغيرين، وإن اختلفت في تقديرها لاتجاه السببية، حيث توصل عدد منها إلى أن تحقيق التغيير/التحول الهيکليStructural transformation  هو المسبب للنمو الاقتصادي (Sutton: 2001). في حين توصلت دراسات أخرى إلى أن النمو الاقتصادي هو المسبب للتغيير الهيکلي، وأن تحقيق هذا النمو هو شرط مسبق لإنجاز التغيير الهيکلي، مدفوعاً بتأثيرات نمو الدخل ونمو الطلب (Amable2000). إلا أن دراسات أخرى قد توصلت لوجود هذه العلاقة الإيجابية وبمعدل ارتباط أعلى، ولکنها ليست بين التغيير الهيکلي والنمو الاقتصادي، بل بين سرعة التغيير الهيکلي والنمو الاقتصادي، حيث إن سرعة وتيرة إنجاز التغيير الهيکلي هي المسبب للنمو لاسيما في حالة الدول المتقدمة مرتفعة الدخل، أما في بدايات التغيير الهيکلي (عند بدء مراحل التغيير الهيکلي في الدول المتقدمة) فقد کانت العلاقة أکثر موثوقية بين تحقيق التغيير الهيکلي من جانب والنمو الاقتصادي من جانب آخر (Olga and Lelio, 2010). ورغم أن الدول العربية قد انطلقت في مساراتها التنموية منذ منتصف القرن الماضي، وحققت معدلات متفاوتة من النمو وکانت في المجمل أقل من المعدلات المطلوبة لإنجاز التنمية المستدامة، فقد واجه هذا النمو إشکالية إضافية وهي ارتکازه إلى حد بعيد على ذات الهياکل الاقتصادية والإنتاجية التقليدية القائمة في الدول العربية، ولم يکن لهذا النمو تأثير ملموس على تحول تلک الهياکل باستثناء فترة الخمسينيات من منتصف القرن الماضي والفترات الأولى عموماً من استقلال الدول العربية. حيث يشير الواقع التاريخي إلى تمکن الدول العربية من انجاز المراحل الأولى للتحول الهيکلي المرتبط بتراجع والتحول من الأنشطة الاقتصادية الأکثر ارتباطاً واعتماداً على الموارد الطبيعية (القطاع الزراعي والأولى) إلى الأنشطة الصناعية ذات القيمة المضافة المنخفضة ممثلة في الصناعات الاستخراجية والصناعات التقليدية منخفضة أو متوسطة التکنولوجيا.  في حين يشير الواقع إلى عدم تمکن الدول العربية وبوتائر متفاوتة من تحقيق استمرارية مسار التغيير الهيکلي وفق المسار التاريخي للدول المتقدمة والصاعدة، حيث لم تتمکن من تطوير هياکلها الاقتصادية والإنتاجية صوب أنشطة ومنتجات (سلعية وخدمية) أکثر تضميناً للمکون المعرفي. ونظراً لما يتطلبه انجاز مثل هذا الانعکاس للنمو على التحول الهيکلي، فقد تمّ تقييم تطور تلک الهياکل لسنوات مختارة للفترة (1985 – 2018)، حيث لم يتم رصد تغير ملموس في هياکل الاقتصادات العربية طوال تلک السنوات، وبقيت أنشطة الخدمات لاسيما الخدمات غير الإنتاجية، والصناعات الاستخراجية مستحوذة على النصيب الأکبر من تلک الهياکل. وافتقد هذا المسار إلى رصد تنامي واضح لحصة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، وبقيت حصتها متراوحة بين 9.5% - 11.5% خلال 33 عام کما يوضح هذا الشکل (4). أخذاً في الاعتبار أن هذا الهيکل يأتي في ظل ضعف مساهمة الاقتصاد العربي أساساً في الاقتصاد العالمي، حيث مثلت الصادرات العربية في المتوسط نحو 3.0% فقط من إجمالي صادرات العالم، کما اقتصرت نسبة الصادرات العربية المصنعة لإجمالي الصادرات العربية خلال الفترة 1990 – 2018 على نحو 9.42% فقط.

 

World bank (2020) المصدر:

من ناحية أخرى، رغم تمکن عدد من الدول العربية مثل تونس والأردن والمغرب، من تحقيق تطوير في نسبة هذه الصادرات، إلا أن معظم الدول العربية لم تحقق معدلات مناظرة وجاء معظمها بعيداً عن المتوسط العالمي وبالتبعية عن ذلک المعدل المتحقق في دول المقارنة من الدول الصاعدة مثل الصين وکوريا وترکيا وذلک وفقا للأداء المتحقق للعام 2018.في دلالة واضحة على عدم تمکن الدول العربية في المحصلة من مواصلة النمط التاريخي المفترض لإنجاز باقي مراحل التحول الهيکلي ومن ثم نمو اقتصادي مستدام يقوم على تنويع هياکل الاقتصاد وتحسينها. يبرز ذلک التحليل قصور وانفصام العلاقة بين تحقيق النمو الاقتصادي في الدول العربية، وإنجاز التحول في الهياکل الاقتصادية، واقتصار الجهود على إجراء تحسينات ضمن الهياکل القائمة، دون السعي لاستحداث هياکل وأنشطة جديدة ذات قيم مضافة أعلى تتسم بسرعة نموها، بما يدعم تحسين الإنتاجية والنمو المستدام (الجدول رقم 2).

جدول رقم (2) تطور نسبة الصادرات المصنعة لإجمالي قيمة الصادرات في عدد من الدول العربية ودول مقارنة لسنوات مختارة للفترة 1990 – 2018 (%)

الدولة

1990

1991

1992

1993

2000

2018

 

الصين

71.58

75.72

78.73

80.61

88.22

93.37

 

کوريا

93.52

92.83

92.83

93.14

90.75

87.79

 

تونس

69.11

68.85

72.87

75.1

77.00

81.10

 

ترکيا

67.88

65.77

71.34

71.85

81.24

80.88

 

الأردن

50.79

45.67

49.75

50.94

60.54

74.91

 

المغرب

52.25

54.17

55.1

56.75

64.09

71.62

 

ماليزيا

53.78

60.6

64.41

69.65

80.43

69.5

 

مصر

42.47

30.66

35.32

32.90

38.43

51.70

 

البحرين

44.09

38.72

31.66

34.89

9.85

20.27

 

السعودية

7.07

6.42

9.12

5.70

7.08

16.33

 

عمان

5.16

8.67

11.60

14.74

8.87

15.74

 

الامارات

12.27

12.27

17.81

28.20

2.31

13.98

 

قطر

15.69

14.32

13.97

16.58

8.59

11.11

 

الجزائر

2.64

2.18

3.03

3.47

2.31

4.27

 

العالم

69.94

69.59

71.36

72.12

71.16

68.79

 

الدول العربية

17.85

13.13

14.99

17.25

9.33

17.87

 

world bank, (2019) المصدر:

رابعاً: تقييم مصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية: استدامة النمو في ضوء دلالات نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج TFP.

فيما يتعلق بتحليل وتقييم مصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية، وفي ضوء ما أصلته النظرية الاقتصادية من تقدير دالة النمو استناداً لمصادره التي أسهمت في إنتاجه، والمتمثلة في العمل ورأس المال، إضافة إلى الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج TFPوفقاً لروبرت سولو وتطبيقاً لمنهجية دالة إنتاج کوب دوجلاس Cobb-Douglas production function(Hsieh. and Kne, 2000). هذا إضافة لما أوضحته مسارات النمو الاقتصادي وبخاصة في المدى الطويل للدول المتقدمة ونظيرتها الصاعدة، وفق النموذج الکلاسيکي الحديث وافتراضاته، من ارتباط تحقق النمو واستدامته بنمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج التي تعبر عن نمو في الناتج الحقيقي (output)يتجاوز نمو المدخلات (input)(Hornstein and Krusell,1996). والتي تعکس الکيفية التي تقوم من خلالها الدول باستخدام المدخلات بکفاءة وکثافة في عملية الإنتاج متضمنة بموجب افتراضات معينة مستوى التکنولوجيا أو المعرفة. حتى أن التباين التاريخي والمعاصر في تلک الإنتاجية هو المصدر الحقيقي للتفاوتات القائمة فيما بين الدول المتقدمة وبعضها البعض(Kohli,2015).مما لا شک فيه أن تلک التباينات ترتبط بترکيبة هياکل الأنشطة القائمة في الدولة، إضافة للأبعاد الأخرى المؤثرة في العملية الإنتاجية وکلفة الأعمال مثل المرافق والخدمات والموارد البشرية والمؤسسية. کما أنها دون شک متأثرة بمعدل النمو الاقتصادي ذاته. وسعياً لتقييم مصادر النمو الاقتصادي العربي للتأکد من مدى قدرته على الاستدامة وفق معيار النمو في الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج. واستناداً لبيانات النمو في الناتج المحلي الإجمالي ومصادره (العمل، ورأس المال، والإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج) وذلک وفق منهجية (conference-board) القائمة بدورها على أساس منهجية سولو لتقدير النمو، مع تقدير نمو الناتج، ونمو مدخلات العمل، ونمو مدخلات رأس المال، ونمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج من خلال التغير المحسوب على أساس اللوغاريتم الطبيعي لتلک المتغيرات. وکما يوضح (الجدول رقم 3) يظهر اعتماد النمو الاقتصادي بشکل أساسي في الدول العربية خلال الفترة الممتدة منذ العام 1990 إلى العام 2018، على النمو الأفقي لمدخلي العمل ورأس المال، باستثناء تونس التي حققت أفضل المعدلات العربية في النمو الرأسي المتمثل في نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج، حتى أنها تجاوزت المعدلات المحققة في عدد من دول المقارنة.

جدول رقم 3: مصادر النمو الاقتصادي في الدول العربية ودول مقارنة کمتوسط عام للفترة 1990 - 2018 (%)

الدولة

متوسط النمو السنوي للناتج

متوسط النمو السنوي لرأس المال

متوسط النمو السنوي للعمالة

متوسط النمو السنوي TFP

الجزائر

2.65

1.74

2.04

-1.13

مصر

4.23

2.88

2.04

-0.69

جنوب إفريقيا

2.23

1.37

1.06

-0.2

السودان

4.07

2.31

2.13

-0.37

تونس

3.82

1.57

1.32

0.93

اليابان

1.12

1.66

0.17

-0.72

ماليزيا

5.61

4.1

1.39

0.12

سنغافورة

5.7

3.62

1.72

0.35

کوريا الجنوبية

4.92

3.44

0.37

1.11

ترکيا

4.52

3.1

1.58

-0.16

البرازيل

2.07

1.18

1.2

-0.32

البحرين

4.26

3.35

1.91

-1

العراق

1.85

-0.8

0.86

1.79

الأردن

4.17

2.38

2.33

-0.54

الکويت

3.39

3.46

0.88

-0.94

عمان

3.61

3.08

1.72

-1.2

قطر

7.68

6.27

1.55

-0.14

السعودية

3.44

4.03

1.45

-2.04

سوريا

0.65

1.27

0.88

-1.5

الإمارات

4.42

2.65

1.77

0

اليمن

1.67

2.57

1.93

-2.84

الولايات المتحدة

2.42

1.21

0.83

0.38

المصدر: حسابات الباحث استناداً لقاعدة بيانات Conference board (2020)

کما يظهر أن معدل نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج کان سالباً في معظم الدول العربية، وأن قائمة الدول العربية الأکثر تأخراً (سلبية) في نمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج قد شملت دولاً من مختلف التصنيفات التنموية ممثلة في اليمن، والسعودية، وسوريا، وعُمان، والجزائر، والبحرين، والکويت، ومصر، والأردن، والسودان، وقطر. کما لم تتمکن باقي الدول العربية وبنسب متفاوتة من مجاراة الأداء المتحقق في دول المقارنة.

بشکل عام جاء هذا القصور في ترکيبة مصادر النمو الاقتصادي العربي نتيجة عوامل تتباين فيما بين هذه الدول، حيث ترتبط في بعض الدول بکثافة نمو رأس المال کما في حالة الدول النفطية عموماً، أو بنمو قوة العمل کما في حالة الدول التي تتمتع بحجم سکاني کبير مثل مصر، کما أنه على مستوى حالة مثل تونس التي حققت أعلى معدلات نمو في الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج، فيلاحظ کذلک أنها کانت الدولة الأکثر تميزاً في نوعية هياکلها الإنتاجية حيث المساهمة الأعلى للصناعات التحويلية في الإنتاج والتصدير على مستوى الدول العربية. الأمر الذي يدلل على الارتباط التنموي بين تطوير کلا البعدين الخاصين بتعديل وتطوير هياکل الإنتاج من جانب، ودفع النمو الاقتصادي ونمو الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج من جانب آخر.

خامساً: البعد النوعي للنمو الاقتصادي العربي

5/1: نوعية النمو الاقتصادي العربي في إطار دلالات المحتوى التقاني للصادرات.

يمثل نمو قطاع وأنشطة الصناعات التحويلية، أحد أهم روافد النمو الاقتصادي المفضي للتغيير الهيکلي في المراحل التنموية التي تنتمي إليها کافة الدول العربية، وقد أظهرت البيانات اقتصار حصة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في المجمل فيما بين 9 إلى 11% خلال السنوات 1990 - 2018.  ويعنى هذا الجزء من الدراسة بالسعي لتحليل نوعية النمو الاقتصادي العربي باستخدام دلالات مخرجات أنشطة الصناعات التحويلية في الدول العربية ومدى تضمينها لمحتوي معرفي أعلى اعتماداً على مؤشر نسبة الصادرات السلعية عالية التکنولوجيا لإجمالي الصادرات في الدول العربية. أو لإجمالي الصادرات عالية المحتوى التکنولوجي عالمياً.

تظهر البيانات التدني الواضح لقيمة ونسبة هذه الصادرات في کافة الدول العربية بنسب متفاوتة، وهو الأمر الذي يرتبط عملياً بثبات وبطء تحول هياکل الإنتاج واستمرار سيادة ذات الهياکل للأنشطة الصناعية التقليدية ممثلةً في أنشطة صناعة التکرير، والصناعات الغذائية، والمنسوجات، والحديد والصلب، والأسمدة، والبتروکيماويات، وغيرها من الأنشطة الصناعية التي لا تتمتع بارتفاع قيمتها المضافة أو محتواها التقني (WITS,2019). حيث اقتصرت الأهمية النسبية للصادرات السلعية ذات المستوى التکنولوجي والمعرفي المتقدم على نحو 6.2% من إجمالي الصادرات في الدول العربية. کما بلغت نسبتها في عدد من الدول العربية التي تحتل فيها أنشطة الصناعات التحويلية أهمية نسبية عالية نسبياً مثل تونس والمغرب والأردن ومصر نحو 7.39%، 3.84%، 1.8%، 0.88% في کل منهم على التوالي.  مقابل ذلک ترکز الجانب الأکبر من الصادرات العربية في السلع من الموارد الطبيعة والمواد الأولية والمنتجات منخفضة المحتوى التکنولوجي. في حين بلغت نسبة الصادرات عالية التکنولوجيا لإجمالي الصادرات في دول المقارنة لاسيما الدول الصاعدة نحو 31.0% في الصين، ونحو 36.3% في کوريا 16.3، وبلغ کمتوسط عالمي نحو 17.9%.

مما يظهر هذا الضعف في الأداء النوعي والکمي للصادرات العربية، ما توثقه البيانات الدولية من اقتصار متوسط مساهمة الصادرات من السلع عالية التقانة للدول العربية مجتمعة على نحو 0.15% فقط من إجمالي صادرات تلک المنتجات عالمياً وذلک وفق بيانات العام 2018، وبما يعادل نحو 3.44 مليار دولار لإجمالي الدول العربية، وذلک مقابل بلوغ هذه النسبة کمتوسط عالمي لذات العام نحو 17.9%، وبما يعادل نحو 2.250 تريليون دولار للعام 2018. حيث ترکز الجزء الأکبر من صادرات تلک المنتجات عالمياً في الصين (%26)، وألمانيا (%8.57) والولايات المتحدة (%7.17) وسنغافورة (%6.93) وکوريا (6.20%) وفرنسا (%6.14) واليابان (%4.20)، لتستحوذ 7 دول متقدمة وصاعدة ونامية على نحو 63.2% من الصادرات العالمية عالية التقانة، في حين تخلفت کافة الدول العربية عن اللحاق أو المواکبة لهذا التوجه، حتى أنها لم تصل مجتمعة للمعدل المحقق في دول نامية مثل المکسيک أو تايلاند أو الفلبين التي ساهمت بنحو 2.13%، 1.43%، 1.22% في صادرات العالم من السلع عالية التقانة لکل منها على التوالي. علماً بأن هذه الدول يقل الدخل فيها عن نظيره السائد في العديد من الدول العربية، کما أنها تعاني من تحديات تنموية عميقة تفوق في العديد من الحالات تلک التي تواجهها معظم الدول العربية (الملحق رقم 1) (World bank,2019).

5/2: النمو الاقتصادي العربي في إطار دلالات المؤشر العالمي للتعقيد/التطور الاقتصادي Economic complexity Index للدول العربية ودول المقارنة عالمياً.

يمکن الاسترشاد بنتائج المؤشر العالمي المعني بقياس التعقيد الاقتصادي أو التعقيد الإنتاجي (للصادرات)، لرصد وتوثيق طبيعة ونوعية الأنشطة التي أسهمت في النمو الاقتصادي في الدول العربية، وهو المؤشر المعتمد على قياس مدى تطور هيکل ونوعية قوائم الإنتاج الوطني الموجهة للتصدير، وما تتضمنه من محتوى معرفي وتقني. حيث يعتمد هذا المؤشر في جوهره على دلالات المزايا النسبية الظاهرة RCA لقوائم الصادرات في الدولة. وأن الاقتصاد القادر على امتلاک هياکل إنتاجية تقوم بإنتاج سلع ومنتجات عالية المحتوى التکنولوجي مثل الطائرات والإلکترونيات والصناعات الدقيقة والأجهزة الطبية وما إلى ذلک، هي بالضرورة الاقتصادات التي تمتلک شبکات واسعة من المؤسسات والأسواق المتطورة والمتشابکة Sophisticated فلا يمکن إنتاج مثل هذه المنتجات في اقتصادات أولية تفتقر إلى شبکات أعمال ومعارف وهياکل اقتصادية وإنتاجية معقدة. تمثل بدورها القوام الأکبر ضمن هيکل الناتج المحلي الإجمالي. وتعتمد منهجية المؤشر على القياس للدول التي بلغ عدد سکانها أکثر من 1.25 مليون نسمة، والتي يبلغ حجم تجارتها أو يزيد عن مليار دولار، وللمنتجات التي تبلغ صادراتها أو تزيد عن 10 مليون دولار (Economic Complexity index 2019). وقبل تحليل واقع الدول العربية في هذا المؤشر، تجدر الإشارة لما وثقته العديد من الدراسات التطبيقية المعنية برصد أو تقدير العلاقة المباشرة والتأثيرات المقدرة بين متغير التعقيد الاقتصادي والنمو الاقتصادي، من التأکيد على قوة هذه العلاقة وذلک استناداً لما تقوم عليه منهجية احتساب هذا المؤشر القائم على تحليل العلاقات بين الدول والمنتجات التي تصدرها وهو ما يعکس کما سبق التقديم المعرفة المضمنة في الهيکل الإنتاجي للاقتصاد embedded knowledge. تلک المعارف التي تمثل جوهر نظريات ونماذج النمو الداخلي (Stojkoski and Kocarev,L.,2017). أظهرت نتائج تطور مؤشر التعقيد الاقتصادي في اقتصادات الدول العربية وبعض دول المقارنة لسنوات مختارة للفترة منذ العام 1970 حتى العام 2017 العديد من النتائج التي يجب التوقف عندها، وأهمها: القصور الشديد في أداء معظم الاقتصادات العربية في الانخراط ضمن الدول المنتجة والمصدرة للمنتجات ذات الکثافة في المحتوى المعرفي. أما فيما يتعلق بوتيرة التطور فقد تمکنت بعض الدول العربية من تحسين قدراتها في إنتاج وتصدير منتجات أکثر تضميناً للمحتوى المعرفي عام 2017 مقارنة بالعام 1970، مثل السعودية، والإمارات، وقطر، والکويت، وعُمان.  من جانب آخر فقد أظهر المؤشر تراجع نوعية هياکل الإنتاج والتصدير في عدد من الدول العربية خلال الفترة محل المقارنة لاسيما في لبنان، والأردن، ومصر، والمغرب، وسوريا، والجزائر، والسودان. وهي الدول التي لا يتمتع معظمها بوفرة الموارد کما هو الحال في الدول النفطية، والتي تواجه کذلک مستويات أعلى من اشکالات التنمية، بمعنى أنه کان يُفترض بتلک الدول أن تکون أکثر اندفاعاً لتطوير هياکل اقتصادية أکثر تنوعاً، ومنتجات أکثر تضميناً للمحتوى التقني. حيث توضح بيانات الأداء المقارن للدول العربية، أنه وفقاً لنتائج هذا المؤشر للعام 1970 کانت لبنان هي أفضل الدول العربية أداءً، حتى أنها تفوقت على دول المقارنة الصاعدة مثل کوريا والصين وسنغافورة والمکسيک وترکيا. حيث بلغت قيمة هذا المؤشر لــ "لبنان" 0.647574، مقابل بلوغها لدولة مثل کوريا 0.621873. إلا أن الفترات والعقود اللاحقة شهدت تغيراً في هذا الأداء واتساعاً لحجم الفجوة. حيث بلغت قيمة هذا المؤشر عام 2017 نحو 0.0803256 في "لبنان" متراجعاً بنحو 87.6% من قيمته عام 1970، مقابل بلوغ قيمة هذا المؤشر في “کوريا" 1.77613 محققة نمواً قدره نحو 185.6% عام 2017 مقارنة بمستواه عام 1970. کذلک ففي الوقت الذي تمکنت فيه بعض الدول العربية من تحقيق تطور إيجابي وفقاً لنتائج هذا المؤشر خلال الفترة محل القياس مثل السعودية، فإن الأداء المقارن بدول مثل الصين والمکسيک وسنغافورة وترکيا وماليزيا، يوضح عدم کفاية مستويات المواکبة لبناء وتعديل هياکل النمو الاقتصادي استناداً لمعيار تعقيد الصادرات (الجدول رقم 4).

جدول رقم (4) تطور قيمة مؤشر التعقيد/التطور الاقتصادي للدول العربية ودول مقارنة عبر العالم لسنوات مختارة للفترة 1970 -2017

الدولة

قيمة المؤشر للعام 1970

الدولة

قيمة المؤشر للعام 1995

الدولة

قيمة المؤشر للعام 2015

الدولة

قيمة المؤشر للعام 2017

ألمانيا

2.30919

اليابان

3.25212

اليابان

2.46895

اليابان

2.30938

اليابان

1.97001

ألمانيا

2.7745

المانيا

2.15953

المانيا

2.07537

لبنان

0.64757

سنغافورة

1.20507

کوريا

2.07433

سنغافورة

1.86534

کوريا

0.62187

کوريا

1.18708

سنغافورة

1.67441

کوريا

1.77613

الأردن

0.59790

المکسيک

0.88822

المکسيک

1.13173

المکسيک

1.09955

الصين

0.56752

ماليزيا

0.40735

ماليزيا

1.0751

ماليزيا

0.97137

المکسيک

0.25689

الصين

0.38087

الصين

1.03541

السعودية

0.74715

سنغافورة

0.06331

السعودية

0.26288

ترکيا

0.33331

الصين

0.69130

قطر

0.07853 -

الأردن

0.20654

السعودية

0.30741

قطر

0.39620

تونس

0.13467 -

لبنان

0.13736

لبنان

0.12467

ترکيا

0.17572

مصر

0.13649 -

ترکيا

0.06138

تونس

0.06476

الإمارات

0.12867

المغرب

0.31513 -

تونس

0.28541 -

قطر

0.0213

الکويت

0.11607

سوريا

0.20145 -

عمان

0.37933 -

الإمارات

0.00823

لبنان

0.08032

الجزائر

0.29892 -

مصر

0.40908 -

الکويت

0.01891 -

عمان

0.06090-

ترکيا

0.54568 -

الکويت

0.46788 -

الأردن

0.02088 -

الأردن

0.14985-

ماليزيا

 0.67880 -

قطر

0.55301 -

مصر

0.22871 -

تونس

0.28762-

الإمارات

0.73460 -

الإمارات

-0.27542

عمان

0.31171 -

مصر

0.31975-

السعودية

0.87925-

المغرب

0.71344 -

سوريا

0.59584 -

سوريا

0.74496-

الکويت

0.91652-

الجزائر

0.77736 -

المغرب

0.73313 -

الجزائر

-0.81167

عمان

1.1488-

سوريا

0.87003 -

الجزائر

1.0059 -

المغرب

-0.89235

السودان

1.30781-

السودان

0.99069 -

السودان

1.6188 -

السودان

-1.45787

المصدر: استناداً لقاعدة بيانات: Atlas; 2019 – Economic complexity index

* الدولة الأکثر تأخراً عالمياً وفقا لنتائج هذا المؤشر

5/3: نوعية النمو الاقتصادي في إطار دلالات رأس المال البشري.

استناداً لما وثقته الدراسات التطبيقية ونظريات النمو الداخلي من محورية دور رأس المال البشري في النمو الاقتصادي، يمکن تقييم جودة رأس المال البشري في الدول العربية لتحديد مدى قدرته على دفع النمو الاقتصادي ذو الطابع المستدام للاقتصادات والمجتمعات العربية. وذلک وفق منهجية البنک الدولي لقياس رأس المال البشري HCI المعني برصد جودة رأس المال البشري في العالم، والذي يتضمن مؤشرات خمسة تعالج کلا البعدين الکمي والنوعي للتعليم والصحة دولياً، حيث قام البنک الدولي بحساب مؤشر مرکب لرأس المال البشري تتراوح قيمته بين (0-1). قائم على تقييم رأس المال البشري الذي يتوقع أن يتحصل عليه طفل ولد اليوم وعندما يصل الى سن 18سنة أخذاً بعين الاعتبار مخاطر الصحة الرديئة والتعليم الرديء لدى الدولة أو المجتمع. يتکون المؤشر من ثلاث مکونات وهي البقاء في التعليم حتى نهاية العملية التعليمية عند 18 عام، ويقيس المکون سنوات الدراسة المعدلة بالتعليم المتوقع والذي يعکس کمية ونوعية التعليم. أما البعد الثالث فيعکس الحالة الصحية لرأس المال البشري والمقاسة بمعدلات البقاء على الحياة لغاية 60 عام وکذلک معدلات سوء التغذية للأطفال أقل من 5 أعوام. وبناءً على هذا الأساس فقد جاءت دولة صاعدة ممثلة في سنغافورة في الترتيب الأول عالمياً برصيد 88 نقطة، في حين جاءت باقي الدول العربية وبخاصة متوسطة ومنخفضة الدخل متأخرة في هذا التصنيف. وباستبعاد دول مجلس التعاون الخليجي، الأعلى عربياً في هذا المؤشر وهي کذلک الأعلى دخلاً وتنمية بشريةً، HDI، فقد تراوحت فجوة الأداء بين الدولة الأکثر تقدماً في هذا المؤشر ممثلة في سنغافورة وباقي الدول العربية بما بين 36.4% کما في حالة الأردن لتبلغ نحو 60.2% في موريتانيا. ومما يجب التوقف عنده هو دلالة هذه المؤشرات التنموية وبخاصة فيما يتعلق بجانب المستقبل، حيث إن تحقيق الدولة کما في حالة السودان على سبيل المثال معدل (0.38)، فهذا يعني أن السودان قادر في المستقبل على الاستفادة من 38% فقط من إجمالي الإنتاجية المتاحة لدى قوته البشرية. ما يعني خسارة 62.0% من إنتاجية موارده البشرية. وحتى دول مجلس التعاون الخليجي الأفضل عربياً في هذا المؤشر، لاسيما البحرين التي حققت 0.67 في هذا المؤشر، فيلاحظ أنها حققت في المقابل فجوة أداء مع سنغافورة قدرها 23.9 نقطة. رغم انتماء کلا الاقتصادين للاقتصادات مرتفعة الدخل والتنمية البشرية HDI(الجدول رقم 5).

 

 

 

 

جدول رقم (5): تقييم واقع رأس المال البشري في الدول العربية ودول مقارنة وفق دلالات المؤشر العالمي لرأس المال البشري – 2018

الدولة

قيمة المؤشر

نسبة فجوة الأداء (%) *

سنغافورة

0.88

0

البحرين

0.67

23.9

الامارات

0.66

25

عمان

0.62

29.5

قطر

0.61

30.7

السعودية

0.58

34.1

الکويت

0.58

34.1

الأردن

0.56

36.4

فلسطين

0.55

37.5

لبنان

0.54

38.6

الجزائر

0.52

40.9

تونس

0.51

42

المغرب

0.5

43.2

مصر

0.49

44.3

جزر القمر

0.41

53.4

العراق

0.4

54.5

السودان

0.38

56.8

اليمن

0.37

58

موريتانيا

0.35

60.2

World Bank., (2019b), “human capital index’المصدر:

*نسبة فجوة الأداء مقارنة بالدولة الأکثر تقدماً في هذا المؤشر ممثلة في سنغافورة – حسابات الباحث.

 

سادساً: البعد التشغيلي للنمو الاقتصادي العربي: الاستدامة الاجتماعية والقدرة على خلق الوظائف

سعياً لتحليل طبيعة النمو الاقتصادي من جانب قدرته التشغيلية وخلق مزيد من الوظائف Rich job growth في الدول العربية لتدعيم جوانب الاستدامة الاجتماعية. وبالترکيز على الفترة 2000 – 2019 يظهر تتبع معدلات البطالة في الدول العربية حالة عالية من الانفصام بين النمو والتشغيل. ففي الوقت الذي حققت فيه الدول العربية معدلات نمو تواکب وتزيد عن المتوسطات العالمية، وعن أقاليم متقدمة وصاعدة ونامية في العالم. فإن الملاحظ أن الدول العربية على المستوى الإقليمي وکذلک على المستوى الوطني قد واجهت مستويات عالية من البطالة أو قصور التشغيل خلال ذات الفترة (الشکل رقم 5).

الشکل رقم 5: تطور معدلات البطالة في الدول العربية وعدد من أقاليم العالم لسنوات الفترة 2010 - 2019 (%)

 

المصدر: World bank, (2020)

جاءت البطالة في الدول العربية باستثناء قطر والبحرين والکويت والامارات وعُمان أعلى من المتوسط العالمي وتجاوزت في العديد من الدول العربية ضعف ذلک المتوسط، وهو ما أدى لبلوغ البطالة في الدول العربية ککل عام 2019 نحو 10.34% ما يقارب ضعف المتوسط العالمي لذات العام البالغ نحو 5.4% (الملحق رقم 2). ورغم رصد تراجع نسبي في معدلات البطالة عالمياً وکذلک عربياً خلال الفترة 2000 – 2019 فقد بقيت الدول العربية في المتوسط هي الأعلى عالمياً طوال تلک السنوات. کما توضح البيانات المقارنة للدول العربية کإقليم أن عدم قدرة النمو على خلق الوظائف هو أمر هيکلي الطابع، ففي الوقت الذي حققت فيه الأقاليم المقارنة معدلات أقل للنمو الاقتصادي من تلک المحققة في الدول العربية، فقد تمکنت تلک الأقاليم من تحقيق معدلات بطالة أقل من نظيرتها في الدول العربية (ما يعني أن هناک حاجة لإعادة النظر في القدرة التشغيلية للنمو الاقتصادي العربي ليتأسس على أنشطة إنتاجية تدفع النمو وکذلک التشغيل على حد سواء.

سابعاً: استيفاء النمو الاقتصادي العربي لمتطلبات الاستدامة البيئية

يظهر تحليل هيکل الاقتصاد العربي بشکل عام استمرارية اعتماده على الأنشطة کثيفة الاستخدام للطاقة، والأعلى توليداً للانبعاثات، حيث لا تزال الأنشطة الاستخراجية والصناعات المرتبطة بها تمثل الرکن الأساسي لهيکل الناتج العربي، ومثلت مساهمتها نحو 37.2% من الناتج الإجمالي العربي للعام کمتوسط لسنوات الفترة 2010 – 2018. کما تظهر استخدامات الطاقة المتجددة کبديل للطاقة الاحفورية أو التقليدية مستويات متدنية للغاية في الدول العربية (شکل رقم 7).

 

المصدر: World bank, (2019)                                         

ورغم القيام فعلياً في حالات مثل المغرب والإمارات بالبدء في تبني وتنفيذ مبادرات لتوسيع استخدامات الطاقة المتجددة والتوجه صوب الاقتصاد الأخضر في عدد من الدول العربية الأخرى. إلا أن أفضل مستويات هذا التوظيف (نسبيا) قد تحققت في عدد محدود من الدول العربية ممثلة في تونس والمغرب ومصر ولبنان، ثم تأخذ الإسهامات في التراجع والتدني في باقي الدول العربية، حيث الاستخدام الأکثر کثافة للطاقة التقليدية/الأحفورية، ومع ذلک فإن الأمر المؤکد هو أن حجم الطاقة المتجددة في کافة الدول العربية دون استثناء هو أقل من المتوسط السائد عالمياً البالغ نحو 18.6%. من جانب آخر تظهر هياکل الإنتاج والتصدير والمزايا التنافسية في الدول العربية، اعتمادها بشکل أساسي على منتجات الصناعات غير الخضراء کثيفة الکربون، مثل الصناعات الکيماوية العضوية وغير العضوية والأغذية والمشروبات وصناعات منتجات الألبان، والأسمدة، والبلاستيک، ودباغة الجلود، ومنتجات الملابس، والألمنيوم، ومنتجات التکرير، والصهر، والتعدين، وصناعات الأسمنت، والرخام، وغيرها، وهي الأنشطة التي تتسم في معظمها بکثافة الملوثات (العضوية وغير العضوية) الناجمة عنها، إضافة لکونها کثيفة الاستخدام للطاقة (High Energy Consuming Industry)، ما يجعلها في المحصلة أقل اتساقاً مع المعايير البيئية المرتبطة بدورها باستدامة المسار التنموي للدولة . وباستخدام مؤشرات الاستدامة البيئية التي تُقيم مدى مراعاة الأبعاد البيئية لأنماط التنمية القائمة، يتضح أن بعض الاقتصادات العربية التي تمکنت فعلياً من الانخراط في العديد من التصنيفات الدولية ضمن مواقع متقدمة مقارنة بباقي دول العالم بل مقارنة بالعديد من الدول المتقدمة، وذلک وفق مستوى التنمية البشرية HDI، أو وفق معيار متوسط دخل الفرد، أو وفق مؤشر التنافسية الدولية GCI، والتي حققت معدلات نمو مرتفعة نسبياً مقارنة بباقي الدول العربية وبالمتوسطات العالمية السائدة کما سبق التقديم مثل دول مجلس التعاون الخليجي، لم تتمکن من تحقيق معدلات مماثلة في مؤشرات الاستدامة التنموية (الاستدامة البيئية)، ويظهر ذلک بوضوح من خلال مقارنة نموذج تنموي عربي خليجي ممثلا في حالة الإمارات، مع نموذج مشابه في الدول المتقدمة (ممثلا في حالة النرويج)، فرغم تشابه کلا الاقتصادين في ارتفاع الأهمية النسبية للموارد النفطية، حيث احتلت کل من الإمارات والنرويج الترتيب الدولي 8، 16 في قائمة الدول الأکثر انتاجاً للنفط عام 2017 وکذلک تشارکهما العديد من مواطن التميز في المؤشرات التنموية الدولية، حيث أظهرت مؤشرات التنافسية الدولية GCI طبقاً لتقرير المنتدى العالمي WEF حول التنافسية الدولية وقوع کلا الاقتصادين ضمن قائمة  الاقتصادات الأکثر انخراطاً في المرحلة التنموية القائمة على الابتکارات، اضافة لوقوع کلا الاقتصادين ضمن قائمة الدول الأعلى تصنيف في المؤشر الدولي للتنمية البشرية HDI، علاوة على تقارب حجم السوق في کلا الاقتصادين ، وکذلک تساوي کلا الاقتصادين في المساهمة في الناتج المحلي الاجمالي العالمي بمعدل مساهمة قدره نحو 0.51%، حيث جاء الاقتصادين النرويجي والإماراتي في الترتيب 29،28 عالمياً في حجم الناتج المحلي الإجمالي. فإنه على الرغم من کل ذلک فإن هناک تفاوتاً واضحاً في مدى استدامة المسار التنموي بيئياً بين کلا الاقتصادين، فوفقاً لدراسة اجراها المنتدى الاقتصادي العالمي في وقت سابق للتقدير الکمي لانعکاسات البُعد البيئي على البعد التنموي لدول العالم، فقد ظهر أن قيمة مؤشر التنافسية الکلية للاقتصاد النرويجي  GCI للعام 2014 – 2015 بلغ (5.40 نقطة)، وفي حال تضمينه لمتطلبات الأبعاد البيئية للتنمية   Environmental Sustainability adjusted GCI فقد أدى ذلک لارتفاعه (تحسنه) ليبلغ (6.14 نقطة)، مع تطور ترتيبه الدولي من الترتيب الحادي عشر إلى الترتيب الثاني عالمياً. في حين تراجعت قيمة مؤشر التنافسية الکلية للاقتصاد الإماراتي لذات العام إثر تضمينها لمتطلبات الأبعاد البيئية للتنمية من (5.30 نقطة) إلى (5.16 نقطة)، مع تراجع ترتيبه من المرکز 12 إلى المرکز 19 دولياً. وهو الحال الذي واجهته کافة الدول العربية بنسب متفاوتة، حيث تراجعت قيمة المؤشر الخاص بالتنافسية الکلية إثر تضمينه الأبعاد الخاصة بالاستدامة البيئية.

کذلک يؤکد تقصير الدول العربية في ربط مسار التنمية (النمو، والإنتاج والوظائف) بالاستدامة، ما يظهره المؤشر الدولي للاقتصاد الأخضر Environmental Performance Index - المعني بمتابعة التقدم المنجز في أثر النمط التنموي السائد في دول العالم على الصحة البيئية، وکذلک على حيوية النظام البيئي، وذلک استناداً لقياس 22 مؤشر فرعي، فوفقاً لذات الحالات التي استخدمت للتحليل لکلا الاقتصادين الاماراتي والنرويجي. تظهر البيانات تمکن الاقتصاد النرويجي من تحقيق الترتيب العاشر عالمياً بمعدل 78.04% للمؤشر الکلي للاستدامة البيئية، مقابل تحقيق الاقتصاد الإماراتي الترتيب الدولي الخامس والعشرون بمعدل 72.9%، وهو الأداء الذي انسحب أيضاً وبشکل أکثر وضوحاً على باقي الدول العربية التي تذيلت هذا التصنيف الدولي وقد تطور هذا الأداء وفق بيانات العالم 2018 حيث تراجعت قيمة هذا المؤشر بشکل طفيف في حالة النرويج بمعدل (0.7%)، في حين تراجع بالنسبة للإمارات بنحو 19.2% مقارنة بمستواه عام 2014. EPI 2014, 2018)).

ورغم تقارب متوسط نصيب الفرد من الانبعاثات لغاز ثاني أکسيد الکربون عربياً مع المتوسط العالمي المقدر بنحو 4.7طن لکل فرد سنوياً، وهو المؤشر الذي يحظى بأهمية عالية على المستوى الدولي کمؤشر لتقييم الاستدامة البيئية على مستوى دول العالم، ومدى مساندة أنماط الإنتاج القائمة لمتطلبات الاستدامة البيئية. إلا أن العديد من الدول العربية قد تجاوزت هذا المتوسط العالمي بعدة أضعاف لاسيما الدول المنتجة للنفط، بل إنها تجاوزت المعدلات المحققة في الولايات المتحدة الأمريکية المنتج الأول للنفط عالمياً والتي تحتل مع الصين قائمة الدول الأعلى انبعاثاً للکربون خلال العقود الأربعة الماضية. وجاءت دول مجلس التعاون ضمن الدول الاعلى عالمياً في هذا المؤشر حيث جاءت قطر في الترتيب الأول عالمياً وجاءت الکويت والبحرين والامارات والسعودية في الترتيب (4)، (5)، (6)، (10)، (16) على التوالي، وبلغ متوسط نصيب من الانبعاثات أکثر من ثلاثة أضعاف نظيره السائد في الدول ذات الدخل المرتفع التي تنتمي إليها دول مجلس التعاون. وجاءت دول متقدمة ونفطية مثل الولايات المتحدة في الترتيب (12) والنرويج في الترتيب العالمي (39) (World bank,2020). من جانب آخر أظهرت وتيرة تطور هذا المتوسط اتجاهه للارتفاع في الدول العربية ککل، لاسيما تلک التي تحتل المواقع الأعلى عالمياً في هذا المتوسط للفترة 1980 –2016. ليبلغ متوسط هذا الارتفاع بين هذين العامين نحو 60.2% للدول العربية، ونحو 57.4% في قطر، ونحو 51.7% في السعودية، ونحو 37.9% في الکويت. مقابل ارتفاعه المحدود عالمياً بمعدل نحو 14.3%. بل إن البيانات توضح تراجع هذا المتوسط في دول مقارنة مثل الولايات المتحدة الامريکية بنحو 19.8%، وفي الدول مرتفعة الدخل بنحو 8.0%، وفي الدول أعضاء منظمة التعاون والتنمية بنحو 12.8% (الجدول رقم6).

جدول رقم 6: تطور متوسط نصيب الفرد من انبعاثات غاز ثاني أکسيد الکربون في الدول العربية ودول واقاليممقارنة لسنوات مختارة للفترة 1980 – 2016 (طن متري/فرد)

الدولة

1990

2016

معدل التغير (%)

قطر

24.72

38.9

57.36

الکويت

18.09

24.95

37.92

البحرين

25.06

22.23

-11.29

الإمارات

28.44

22.04

-22.50

السعودية

11.45

17.37

51.70

الولايات المتحدة

19.32

15.5

-19.77

عمان

6.24

14.17

127.08

الدول مرتفعة الدخل

11.29

10.39

-7.97

أعضاء منظمة التعاون والتنمية

10.3

8.98

-12.81

الدول العربية

2.94

4.71

60.20

العالم

4.19

4.79

14.32

المصدر: World bank, (2020)

ثامناً: النتائج والتوصيات: سياسات المعالجة المقترحة لبناء نمو أکثر استدامة وفق التوجهات العالمية الحديثة.

أظهرت الدراسات والبحوث وکذلک تجارب الدول المتقدمة والصاعدة وکذلک النامية عبر الزمن أن نمو الاقتصاد يتمحور حول أرکان أربعة أساسية ممثلة في الأرض والموارد الطبيعية، والقوى العاملة وفقاً لحجمها وکذلک نوعيتها، والتراکم أو التکوين الرأسمالي، إضافة للتغيير أو التجديد التکنولوجي وکافة العوامل المؤثرة في کيفية استخدام المدخلات الإنتاجية السابقة والتي تسمح بإنتاج ونمو المخرجات بما يتجاوز المدخلات المتاحة والنمو فيها. کما أظهرت التجارب الدولية أنه ليس من ترکيبة موحدة الطابع تجمع بين تلک المکونات وتوثق مسار أو نمط وحيد لمزجها. حيث تتنوع الهبات والموارد والقدرات فيما بين الدول، وعلى کل دولة التحرک لاستخدام وتوظيف التوليفات المناسبة الأکثر قدرة على توليد مستويات عالية ومستدامة من النمو الاقتصادي.

خلٌصت الدراسة الى عدم تحقق الفرضية الأساسية التي قامت عليها. حيث ظهر أن النمو الاقتصادي ببعديه الکمي والنوعي في الدول العربية بمختلف تصنيفاتها التنموية غير مستوفي لمتطلبات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وظهر واضحاً ما يواجه النمو الاقتصادي في الدول العربية من تحديات موضوعية الطابع، سواء فيما يتعلق بحجم هذا النمو، أو نوعيته أو شموليته واحتوائه. والتي أدت بدورها لإعادة تغذية التحديات والاشکالات الهيکلية التي تواجه العديد من الدول العربية مثل الفقر والبطالة وارتفاع المديونية وعجز الموازين التجارية، وهي الإشکالات التي مثلت قيداً أساسياً على هذا النمو الاقتصادي کما أنها تمثل قيداً على بناء أو تطوير أو استحداث محرکات جديدة للنمو على المدى الطويل. هذا بجانب القيود الأخرى مثل الإنتاجية والتراکم الرأسمالي المنتج، ورأس المال البشري والمؤسسي. والتي ترتبط أو تعکس في المحصلة طبيعة الأوضاع التنموية والبنيوية التي تقيد هذا النمو، والتي تتطلب بدورها معالجات تقوم على التشخيص الدقيق لکل منها على حدة.

على الرغم من تحقيق الدول العربية في المتوسط معدلات نمو واکبت وزادت عن المتوسطات العالمية، إلا أنها في المحصلة لا تتقارب مع المعدلات المقترحة من الأمم المتحدة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، کما أنها لا توفر وتيرة أو مسار للنمو يقلص الفجوات التنموية القائمة فيها ويوفر التقارب مع الأنماط الاقتصادية والهيکلية السائدة في الدول المتقدمة أو حتى الصاعدة، فيما يطلق عليه استهداف تحقيق نمو اقتصادي مستدام. وفي هذا الإطار يمکن طرح حزم من السياسات التي تتوجه للتأثير في هذين البعدين، حيث العمل على مضاعفة أو على الأقل زيادة وتيرة النمو الاقتصادي، إضافة إلى التأثير الانتقائي في الأنشطة والقطاعات والمنتجات والهياکل التي أسهمت فيه. بمعنى الدفع الکمي والنوعي للنمو الاقتصادي العربي. حيث يمکن طرح هذه السياسات ضمن نطاقين أساسيين وهما: النطاق العريض أو الأفقي أو الوظيفي، والنطاق الرأسي أو الانتقائي. وذلک کما يلي: -

8/1: المدخل الوظيفي لدفع النمو الاقتصادي (البعد الکمي).

يقوم هذا المدخل على ضرورة توجه الدول العربية لتنفيذ سياسات ذات طابع وظيفي Horizontal Industrial Policy تتضمن کافة أشکال السياسات التي تتسم بتأثيرها الواسع على کافة القطاعات والأنشطة الاقتصادية في الدولة، دون تمييز أو انحياز، مثل سياسات الاستقرار الاقتصادي الکلي، والتعليم، والصحة، والبنية والمرافق الأساسية، والإنفاق على البحث والتطوير، وتطوير البنية التشريعية والقانونية والمؤسسية للدولة، إلى أخر ذلک من سياسات تنساب تأثيراتها إلى کافة القطاعات الاقتصادية. بمعنى أنها حزم السياسات التي تؤثر على التنافسية الکلية للدولة وللاقتصاد. ضمن هذا الإطار يمکن طرح عدد من الأشکال والأدوات الداعمة لتنفيذ تلک السياسات مع مراعاة خصوصيات وتحديات کل دولة، وما يمکن للاقتصاد والمجتمع ونوعية المؤسسات أن تنجزه. والتي تستهدف أساساً الحد من الإخفاقات التي قد تمنع أنشطة الاقتصاد من النمو والتطور والارتقاء، سواء کانت تلک الإخفاقات مرتبطة بالسوق marker failureأو بالحکومات. وفيما يلي عرض لتلک المجالات: Cimoli., et, al., 2006).)

المجال الأول : العمل لإقرار وتنفيذ سياسات الاستقرار الکلي وبناء منظومة متکاملة من الحوافز العامة الموجهة للأنشطة الاقتصادية: والتي تضمن الحفاظ على مسار ثابت ومجدي ومتنامي وقابل للتراکم، لمختلف الأنشطة الاقتصادية بشکل مستدام وقابل للتنبؤ، وبما يتضمنه ذلک من جهود الدولة لتوفير وتأمين بيئة اقتصادية کلية مساندة للأعمال، وبخاصة الإجراءات المرتبطة بتأمين قواعد حقوق الملکية الفکرية، وتنظيم الأسعار، وإتباع سياسات الصرف المناسبة، وتطبيق فعال للسياسات النقدية وأسعار الفائدة، وکذلک إتباع سياسات مالية معادلة، إضافة إلى الإعفاءات الضريبية المنضبطة والمقيدة بمتطلبات الکفاءة والتنافسية والإنتاجية. وذلک من خلال خطط، وسياسات عامة، وموازنات وبرامج مالية واسعة، تستهدف جميعها بناء وتطوير البنى والمرافق الأساسية ومد شبکات الطرق والمواصلات والاتصالات، وشبکات النقل البري والبحري والجوي، وتأهيل المورد البشري من خلال الإنفاق على التعليم والتدريب وتطوير القدرات والمهارات، ونشر وتعميم الخدمات المالية والمصرفية، وإقرار العديد من التشريعات والقوانين الاقتصادية الهادفة لتشجيع الاستثمار وحفز النمو. وقد جاء تطبيق هذه السياسات الأفقية في بداية إطلاق مسار التنمية في الدول العربية بهدف إرساء رکائز الدولة الوطنية الجديدة. وإن کان يلاحظ أن تلک الجهود على وجه العموم لم تشهد زخماً مستداماً خلال نصف القرن الماضي.

المجال الثاني: سياسات فعالة لبناء وتطوير رکائز ثابتة للابتکار العلمي والتکنولوجي. حيث يتضمن هذا المجال توجه الدول العربية لتنفيذ السياسات العلمية، والتوسع في المشروعات ذات التکنولوجيا العالية، وتمويل البحوث الجامعية، وإنشاء مراکز البحوث، ودعم البحوث والتطوير. R&D. والارتقاء بمنظومة الدعم الموجه للجوانب العلمية والبحثية بوجه عام.

المجال الثالث: إقرار السياسات الموجهة لإرساء قواعد التعلم ونقل الخبرات وتحسين القدرات التکنولوجية وتوطين المعرفة والتقانة في الأنشطة الاقتصادية في الدولة: بما يتضمنه ذلک المجال من دور الدولة في صياغة سياسات متطورة ومواکبة للتعليم والتدريب، وعقد وتنفيذ ورش عمل ونقاشات مجتمعية ومتخصصة للتنبؤ وتحديد أولويات البحوث الوطنية، ودعم التدريب الهادف لرفع القدرات، وتنفيذ خطط وبرامج لبناء وتشکيل المهارات والارتقاء، والتعاون في مجال البحوث الدولية، وتوفير حوافز للاستثمار الأجنبي.

المجال الرابع: سياسات توزيع المعلومات: والتي تتضمن آليات العمل الجماعي، وتعزيز المعايير والمواصفات القياسية، واستخدام المنتديات التشاورية، واستخدام الغرف التجارية، وتشجيع التعاون والشراکات الدولية والوطنية، وتسهيل تسويق الصناعات التصديرية، ونشر وتعميم التجارب الناجحة.

8/2: المدخل الانتقائي لدفع النمو الاقتصادي (الترکيز على البعد النوعي للنمو) المستدام القائم على خلق الأنشطة الجديدة (المدخل الانتقائي)

تتضمن السياسات الرأسية او العمودية Vertical Policy کافة أشکال السياسات والإجراءات التي تُعبر عن التحيز أو التمييز لقطاع أو لنشاط اقتصادي معين دون غيره، بهدف التأثير في معدلات نموه، أو قدرته التصديرية، أو مستويات إنتاجيته Robinson, J.,2009).، (Rodrik, D.,2007. بمعنى اتسامها بکونها أکثر استهدافاً وأکثر انتقائية، حيث تقوم الدولة بإقرارها وتنفيذها مستهدفة تحفيز وتنمية قدرات أحد الأنشطة/القطاعات، من خلال منظومة من إجراءات المساندة الموجهة فقط لهذا النشاط، فيما يمکن اعتباره تأثيراً في هياکل هذا النمو ومصادره ونوعيته. ترتکز أهمية هذه السياسات في استهدافها الأدق لتحسين نوعية النمو الاقتصادي ومن ثم استدامته وفق ما توصلت إليه العديد من الدراسات التطبيقية المعنية باستدامة النمو، والتي أکدت أن النمو الاقتصادي القائم على التحول الهيکلي قد لا يکون قريناً لتحقيق الاستدامة، لاسيما ما يتعلق بجانبيها الاجتماعي أو البيئي. فقد يکون النمو القائم على التحول الهيکلي مٌهدداً لاستدامة البيئة أو غير شاملاً، ما يُلزم بضرورة التدخل الحکومي لضمان الاختيار الأفضل لمسار التحول الهيکلي المستدام لهياکل الاقتصاد والمجتمع.  (Bartholomew., et., al. 2014). وهو الاتجاه الذي تم الترويج له بقوة من خلال العديد من الباحثين اللاحقين. وارتکزت القواسم المشترکة لأنصار هذا التوجه على ما يظهره الواقع الاقتصادي في الدول من وجود تباينات وفروقات واضحة بين أداء القطاعات والأنشطة داخل الاقتصاد الوطني، وکذلک وجود فروق بين مستويات وخصائص المعرفة والتکنولوجيا المستخدمة في مختلف قطاعات وأنشطة الاقتصاد، وعدم وجود آليات للتصحيح التلقائي لعمل الأسواق داخل الاقتصاد Marker failure، إضافة لأهمية دور وجود سياسات انتقائية تواجه بشکل دقيق الاستهداف العقبات التي قد تعوق عملية النمو في بعض القطاعات دون غيرها ، وبما يحفز في المحصلة الأنشطة القادرة على قيادة النمو تحسين الإنتاجية الکلية لعوامل الإنتاج على المدى الطويل. ضمن هذا الإطار تجدر الإشارة لقيام إحدى الدراسات التطبيقية باختبار أثر إقرار سياسات من جانب الدولة لزيادة النمو الاقتصادي (مُعبراً عنه بمتوسط دخل الفرد من الناتج) من خلال زيادة التنوع في الأنشطة الاقتصادية القائمة (التحولات الهيکلية)، وذلک استناداً لبيانات 50 دولة (مقطع عرضي). حيث توصلت الدراسة إلى أن الدول منخفضة الدخل تصبح أعلى دخلاً وأکثر غنى وإنتاجا وتوظيفاً، عند تراجع الترکز وتزايد مستويات التنويع. وتستمر هذه العلاقة إلى مراحل متقدمة من عملية التنمية، وعند مستوى دخل معين (مرتفع)، تبدأ هذه العلاقة في التحول، بحيث تصبح الدول أکثر غنى وأعلى دخلاً کلما زاد الترکز وانخفض التنويع. لتتبلور العلاقة النهائية بين الترکز ودخل الفرد على الشکل (U). ويمکن تفسير نتائج هذه الدراسة واقعياً، في أن الدول في بدايات مسار التنمية تکون أکثر اعتماداً على أنشطة اقتصادية محدودة (الزراعة والصيد وبعض الصناعات الأولية)، والذي يصاحب بمتوسطات دخول منخفضة، وعند زيادة حجم وعدد الأنشطة الاقتصادية وانخفاض الترکز وإضافة أنشطة ومنتجات أکثر إلى هيکل الاقتصاد ممثلة في أنشطة الصناعات التحويلية والخدمات، يقود ذلک إلى زيادة فعلية في الإنتاج والتشغيل والدخول، وفي مرحلة لاحقة تبدأ الدول في التوجه إلى قطاعات وأنشطة بعينها تتسم بالارتفاع في قيمتها المضافة ومحتواها التقني، ليزيد مستوى الترکز مجدداً ولکن عند مستويات دخل أعلى. (Harrison, et al., 2009). فيما يرتبط بحالة الدول العربية، والتي تنتمي بدورها إلى مرحلة ما قبل التحول وفقاً لنتائج هذه الدراسة التطبيقية، يُلاحظ أن هياکل الإنتاج فيها لازالت ترتبط إلى حد بعيد بهيکل المزايا والوفرة النسبية للموارد الطبيعية، ما يعني أنها ستبقى أسيرة تلک الهياکل وضمن ذات المستوى المنخفض للدخل. وهو ما يعني ضرورة التدخل الحکومي، لتعديل وإعادة توجيه هياکل الاقتصاد والإنتاج ليصبحا أقل ترکزاً وأکثر تنويعاً، ولکن بشکل انتقائي مدروس صوب الأنشطة الأکثر قيمة ومحتوى معرفي وکذلک الأعلى والأسرع نمواً. وبما يستدعيه ذلک من تطبيق المنهجيات الحديثة لتحديد المسار الأکثر نجاعة والاختيار الأعلى مردود على انجاز النمو المستدام في الدول العربية وبخاصة منهجية الحيز السلعي التي تقوم على أساس أن الاقتصادات تنمو من خلال القدرة على الانتقال والارتقاء Upgrading في الأنشطة والمنتجات التي يتم إنتاجها وتصديرها. ما يعني تکييف مزيج عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال، والمعارف، والمهارات، والترکيبة المؤسسية) اللازم للتحول نحو إنتاج المنتجات الجديدة بسهولة أکبر من غيرها، کونها قريبة من ذات المزيج المستخدم لعوامل الإنتاج لإنتاج المنتجات القديمة، وهي عملية دائمة التطور والارتقاء المستمرين Hidalgo et al. ,2007)). في هذا الإطار يمکن أن تتضمن هذه السياسات الانتقائية:

المجال الأول: سياسات دعم الصناعات والأنشطة الاقتصادية المنتقاة، والتي تتضمن استخدام آليات: أنظمة الحصص أو التعريفات الجمرکية على الواردات، وتوفير الدعم المالي/الائتماني للصادرات، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، واستخدام الشرکات المملوکة للدولة / الخصخصة، وإنشاء المرافق العامة وتوفير المدخلات اللازمة للعمليات الإنتاجية، وتقديم وتسهيل التمويل، وتوفير الضمانات العامة، وسياسة المشتريات الحکومية.

المجال الثاني: سياسات وآليات الاختيار: والتي تتضمن لوائح الدخول والخروج للشرکات، وتفعيل مبدأ عش ودع غيرک يموت"، والإرادة السياسية لوضع حد لدعم الشرکات والأنشطة الفاشلة، وتدعيم سياسات المنافسة ومواجهة الاحتکار، والدعم المحلي للمؤسسات الإنتاجية والتجارية، وسهولة الوصول والنفاذ إلى التمويل، وتوفير التمويل طويل الأجل لجهود التنمية وأنشطتها.

المجال الثالث: سياسات تحسين إنتاجية الشرکات وريادة الأعمال: وتتضمن توفير الدعم للتدريب الإداري للشرکات الصغيرة والمتوسطة، الرصد والمساعدة، توفير وتطوير البنية التحتية والتمويل والإدارة للحاضنات وتشکيل العناقيد، وتعزيز الشراکات بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز التسويق، وإنشاء صناديق رأس المال المغامر.

يظهر استعراض مجالات عمل تلک السياسات أمراً غاية في الأهمية وهو تأکيده على حيوية ومحورية تدخل الدولة المدروس أو الذکي عبر التوجيه والإشراف والتنظيم في الدول العربية وفق متطلبات الاقتصاد الحر القائم على المنافسة وحرية الأسواق. حيث إن تحرک الدول العربية لتبني مثل هذا النهج الهادف إلى دفع النمو الاقتصادي المستدام الطابع وإتمام مراحل التحول الهيکلي صوب الهياکل والأنشطة الإنتاجية السلعية والخدمية الأعلى نمواً والأکثر قدرة على إعادة دعم مسار هذا النمو واستدامته، هو سبيل لا يمکن تأجيله وذلک استجابة لاستحقاقات التنمية المستدامة وکذلک حماية للأجيال القادمة من تحمل أعباء ومخاطر تنموية عالية في حال استمرار المسار الراهن.

 

قائمة المراجع
1-    Acemoglu, D., Johnson, S., and Robinson, J. (2004). Institutions as the fundamental cause of long-run growth. Working Paper 10481, National Bureau of Economic Research: Cambridge http://www.nber.org/papers/w10481.
2-    Amable, B., (2000): "International specialization and growth", Structural Change and Economic Dynamics, 2000, 11, pp. 413-431.
3-    Barro, R., and Martine Xavier, (1991), "Convergence Across States and Regions", Brookings Papers on Economic
4-    Barro, R., and Martine Xavier. (1992), "Convergence", Journal of Political Economy, 100, 223-51.
5-    Bartholomew A., Mama K., Aissatou G., Valerio B., Judith A., and Ziv C. (2014). “Structural Transformation for inclusive development in Africa- The role of active government policies”. UNECA. August 2014.
6-    Chang-Tai Hsieh and Peter J. Kne-low. (2000). "Development Accounting ", American Journal of Economic: Macroeconomics 2000, 2:1, pp.207-223. (https://www.researchgate.net/publication/227348810_Development_Accounting).
7-    Cimoli, M., Dosi G, Nelson R, and. Stiglitz J. (2006). ‘Institutions and Policies Shaping Industrial Development. An Introductory Note’. Paper prepared for the task force on Industrial Policies and Development. New York: Columbia University.
8-    Cohen D and Soto M., (2007), “Growth and human capital: good data, good results”, Journal of Economic Growth, vol. 12, No. 1 (March 2007). https://www.parisschoolofeconomics.eu/docs/cohen-daniel/cohen-soto-2007.pdf
10- Economic Complexity Rankings (ECI)
        (2019) ”https://oec.world/en/rankings/country/eci/
11- EPI (2014). “Environmental Performance Index”, Yale Center for Environmental law & policy, Yale University. https://epi.envirocenter.yale.edu/epi-topline.
12- EPI (2018). “Environmental Performance Index”, Yale Center for Environmental law & policy, Yale University. https://epi.envirocenter.yale.edu/epi-topline.
13- Frank C. (2015): “Industrial Policy in Latin America: Contemporary Development Strategies and Their Determinants”. March 2015. http://people.carleton.edu/~amontero/Cole%20Frank.pdf
14- Gundlach E. (1996),"Human capital and economic development: A Macroeconomic Assessment", working paper, November 1996. https://www.econstor.eu/bitstream/10419/920/1/kap778.pdf
15- Harrison, A. E., and A. Rodriguez-Clare. (2009). “Trade, Foreign Investment, and Industrial Policy’. MPRA Paper 15561. Munich: University Library of Munich.
16- Herrendorf, B., Rogerson, R., and Valentinyi, A. (2013). “Growth and Structural Transformation”, NBER, Working Paper No. 18996 April 2013 JEL No. E20, O40. (https://www.nber.org/papers/w18996.pdf)
17- Hidalgo, C., Haussmann, R., Albert B., and Bailey K. (2007)."The product space and its consequences for economic growth". March,2007. (https://www.researchgate.net/publication/259672497)
18- Hornstein, A., and Per K. (1996).” Can Technology Improvements Cause Productivity Slowdowns? University of western Ontario and federal reserve bank of Richmond and university of Richmond, CEPR, and institute for international economic studies. (https://www.nber.org/chapters/c11030.pdf).
19- James A. Robinson. (2009). “Industrial Policy and Development: A Political Economy Perspective”. Harvard University Department of Government and IQSS. May 2009. Working Paper prepared for the 2009 World Bank ABCDE conference in Seoul June 22-24. (https://scholar.harvard.edu/files/jrobinson/files/jr_wb_industry_policy20-20Robinson.pdf)
20- Kaufmann D. (2002). "Growth without governance", December 2002. publication at: https://www.researchgate.net/publication/2570871. And at: World Bank Policy Research Working Paper 2928, November 2002
21- Kohli Ulrich. (2015). “Explaining Total Factor Productivity”, Geneva School of Economics and Management, University of Geneva, November 2015.( https://www.business.unsw.edu.au/About-Site/Schools-Site/Economics-Site/Documents/Explaining-Total-Factor-Productivity.pdf).
22- Lucas R.E. Jr. (1988). On the Mechanics of Development Planning, journal of Monetary Economics, 22 (1). July 1988.
23- Lucas Robert. E. Jr. (2015). "Reflections on new growth theory: Human Capital and Growth", American economic review, Vol. 105, No. 5, May 2015. (pp. 85-88). https://pubs.aeaweb.org/doi/pdfplus/10.1257/aer.p20151065
24- McKay, A. (2008). 'Economic Growth, Inequality and Poverty Reduction: Does Pro-Poor Growth Matter?', IDS in Focus, no.3. http://www.ids.ac.uk/download.cfm?objectid=F987995C-5056-8171-7B5A66F9299CF48E
25- O'Brien, T.,   Nedelkoska, L and Frasheri, E. )2017).”“What is the Binding Constraint to Growth in Albania?,” Center for International Development at Harvard University. (https://growthlab.cid.harvard.edu/files/growthlab/files/alb_growth_diagnostic_report.pdf)
26- OECD. (2014). “Framework for: Inclusive growth”, https://www.oecd.org/mcm/IG_MCM_ENG.pdf.
27- Olga M and Lelio A. (2010).  “Structural Change in the World Economy: Main Features and Trends”. UNITED NATIONS INDUSTRIAL DEVELOPMENT ORGANIZATION Vienna. UNIDO (2010).
28- Rodrick, D. (2007). ’Normalizing Industrial Policy’. Cambridge, MA: John F Kennedy School of Government, Harvard University. Mimeo.p.35.
29- Rodrik, D. (2004). ’Industrial Policy for the Twenty-First Century’. CEPR Discussion Paper 4767. London: Centre for Economic Policy Research.
30- Romer. M (1986). Increasing Returns and Long-Run Growth, journal of Political Economy, 94 (5).
31- Romer. M (1990), Endogenous Technological Change, journal of Political Economy, 98 (5), part II. October,1990.
32- Samarasinghe T (2018). " Impact of governance on economic growth”, · December 2018, publication at: https://www.researchgate.net/publication/329630083.
33- Solow R.M. (1956). “A Contribution to the Theory of Economic Growth, quarterly Journal of Economics”. 70 (1). February 1956.
34- Solow R.M. (1957). “Technical Change and the Aggregate Production Function”. review of Economics and Statistics, 39 (3).
35-  Stojkoski,V., and Kocarev, L (2017). “The Relationship Between Growth and Economic Complexity: Evidence from Southeastern and Central Europe”, MPRA Paper from University Library of Munich, Germany(https://mpra.ub.uni-muenchen.de/77837/3/MPRA_paper_77837.pdf).
36- Sutton, J., Sunk. (2001). “Costs and Market Structure. Price Competition, Advertising, and the Evolution of Concentration, M.I.T. Press, Cambridge, MA, 1991
37- Swan T.W. (1956). Economic Growth and Capital Accumulation, economic Record, 32
38- The Conference Board Total Economy Database™ - Regional Aggregates, 1990-2019” (https://www.conference-board.org/data/economydatabase/index.cfm?id=27762)
39- UNDP. (2020). “Sustainable development goals, SDGs 2030”.
40- world bank. (2019). “World development indicators”. https://data.worldbank.org/indicator/TX.VAL.MANF.ZS.UN
41-  World bank. (2020), “world development indicators”, https://data.worldbank.org/indicator/SL.UEM.TOTL.ZS
42- World bank. (2015). “Promoting Job Rich and Sustainable Growth in Armenia, Azerbaijan, Belarus, Georgia, Moldova and Ukraine”. https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2015/10/29/promoting-job-rich-and-sustainable-growth-in-armenia-azerbaijan-belarus-georgia-moldova-and-ukraine.
43- World integrated solution – WITS. (2019). (http://wits.worldbank.org/WITS/WITS/Default-A.aspx?Page=Default).