نوع المستند : المقالة الأصلية
المستخلص
نقاط رئيسية
عظمى لديها طموحاتها التوسعية الکامنة، وتحليل سياستها الخارجية تجاه أهدافها المستقبلية، الأمر الذي يمکن أن يشکل تهديداً للأمن الإقليمي والعالمي، حيث أنها قد تؤدي إلى إعادة تنظيم القوى الکبرى في شرق آسيا وما ورائها، والذي سيشکل في النهاية تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة على نظام مابعد الحرب الباردة. ومن بين القضايا الأمنية الملحة التي تواجه آسيا، والتي أصبحت من الضرورة بمکان تناول مواقف الصين إذائها هي النزاعات البحرية والإقليمية حول مياه بحر الصين الجنوبي، حيث أصبحت من بين أکبر النقاط المحتملة للتصعيد خاصةً في ظل تحديث بکين العسکري والمتزامن مع التواجد الأمريکي في المنطقة ([i]).
فمن المعلوم أن ثمة خلافاً حاداً يدور بين الدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي حول حقوق السيادة وما يترتب عليها من تبعات قانونية تتعلق بممارسة مختلف الأنشطة: البحرية، العسکرية، الاقتصادية، التجارية، والسياحية، حيث تقدم الصين -باعتبارها الدولة التي تدعي سيادتها على 80% من مساحة هذا البحر، عدد من الحجج والقرائن الجغرافية والتاريخية التي تبرر بها سيادتها على هذا البحر، تحديداً السيطرة على جزر سبراتلي وباراسيل، والتي تحوي موارد طاقية هائلة.
في مقابل ذلک، ترفض الدول الأخرى -خاصةً الفليبين وفيتنام- هذه الحجج الصينية، وتستخدم لهذا الغرض رؤاها الجغرافية الخاصة لإثبات عدم شرعية هذه الحجج في مجال السيادة على هذا البحر. کما أن هذه الدول عملت على تدويل القضية من خلال طرحها في المحاکم الدولية، والاحتکام إلى القانون الدولي للبحار عام 1982، وهو ما ترفضه بکين بشدة.
[i] CSIS Global Forecast 2012, Available at,
http://csis.org/files/publication/120413_gf_glaser.pdf. (Accessed; 12-09-2019)
الكلمات الرئيسية
الصعود الصيني والأثار المترتبة على نزاعات
بحر الصين الجنوبي
مستخلص
أصبح التوتر المتزايد بين الصين وعدد من الدول في جنوب شرقي آسيا حول المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي واحدة من أکبر النقاط المحتملة للتصعيد، خاصةً في اطار الصعود الصيني المتنامي، والذي قد يمثل –بدرجة أو أخرى- أحد مهددات الأمن والسلام بالنسبة لعدد من دول الإقليم، ودعاوى الدول المتنازعة حول حقوق الموارد في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي يفرض ضرورة الحاجة إلى تحليل آليات التعامل الصيني مع هذه النزاعات. ومع التواجد الأمريکي في الإقليم أصبحت تعامل أمريکا مع هذه "المشکلة الآسيوية" بمثابة اختبار جوهري للوضع المستقبلي للأولوية الأمريکية، حيث تواجه –الولايات المتحدة- اختباراً حاسماً لإثبات قدرتها على الهيمنة ومهاراتها العسکرية والدبلوماسية لحماية حلفائها وأصدقائها أثناء التنقل من خلال التنافس مع الصين الصاعدة. ومن هذا المنطلق، يحلل هذا البحث التغير في سياسة الصين تجاه النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، خاصةً مع التنامي الاقتصادي والعسکري لديها، والأثار المستقبلية لهذه القضية على العلاقات الصينية الأمريکية ومستقبل التفوق الأمريکي في آسيا.
کلمات مفتاحية: الصين- بحر الصين الجنوبي- نزاعات
مقدمـــة:
في السنوات الأخيرة، ظهرت عدد من الکتابات التي تناولت إمکانات الصين کقوة عظمى لديها طموحاتها التوسعية الکامنة، وتحليل سياستها الخارجية تجاه أهدافها المستقبلية، الأمر الذي يمکن أن يشکل تهديداً للأمن الإقليمي والعالمي، حيث أنها قد تؤدي إلى إعادة تنظيم القوى الکبرى في شرق آسيا وما ورائها، والذي سيشکل في النهاية تحدياً لهيمنة الولايات المتحدة على نظام مابعد الحرب الباردة. ومن بين القضايا الأمنية الملحة التي تواجه آسيا، والتي أصبحت من الضرورة بمکان تناول مواقف الصين إذائها هي النزاعات البحرية والإقليمية حول مياه بحر الصين الجنوبي، حيث أصبحت من بين أکبر النقاط المحتملة للتصعيد خاصةً في ظل تحديث بکين العسکري والمتزامن مع التواجد الأمريکي في المنطقة ([1]).
فمن المعلوم أن ثمة خلافاً حاداً يدور بين الدول المشاطئة لبحر الصين الجنوبي حول حقوق السيادة وما يترتب عليها من تبعات قانونية تتعلق بممارسة مختلف الأنشطة: البحرية، العسکرية، الاقتصادية، التجارية، والسياحية، حيث تقدم الصين -باعتبارها الدولة التي تدعي سيادتها على 80% من مساحة هذا البحر، عدد من الحجج والقرائن الجغرافية والتاريخية التي تبرر بها سيادتها على هذا البحر، تحديداً السيطرة على جزر سبراتلي وباراسيل، والتي تحوي موارد طاقية هائلة.
في مقابل ذلک، ترفض الدول الأخرى -خاصةً الفليبين وفيتنام- هذه الحجج الصينية، وتستخدم لهذا الغرض رؤاها الجغرافية الخاصة لإثبات عدم شرعية هذه الحجج في مجال السيادة على هذا البحر. کما أن هذه الدول عملت على تدويل القضية من خلال طرحها في المحاکم الدولية، والاحتکام إلى القانون الدولي للبحار عام 1982، وهو ما ترفضه بکين بشدة.
أضف إلى هذه الصراعات الإقليمية حول موارد البحر وبسط السيادة عليه، فإن هذا الإقليم –جنوب شرقي آسيا- يشهد صراعاً بين القوى الکبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريکية الساعية لتحقيق مصالحها الجيوبوليتيکية في هذا البحر.
فبالنظر إلى النزاعات الإقليمية المستمرة بين الصين وعدد من جيرانها، بما في ذلک اليابان، فإن نزاع بحر الصين الجنوبي يعد قضية ذات أولوية وجزءاً هاماً في عملية النهوض الشاملة للصين، خاصةً مع ضرورة اظهار قدرات بکين في حماية مصالحها وسيادتها وصورتها کقوة عظمى.
وفي الوقت نفسه، دفع تنامي الصعود –العسکري والاقتصادي- للصين معظم دول رابطة جنوب شرقي آسيا (آسيان) إلى دعم جهود واشنطن المتجددة للعودة إلى آسيا، ومن ثم تنشيط العلاقات الأمنية الأمريکية مع الحلفاء والأصدقاء في المنطقة. الأمر الذي حول نزاعات بحر الصين الجنوبي إلى نقطة محورية للتنافس بين القوى الکبرى، مما يعقد هذه القضية، ويطرح تداعيات إقليمية أوسع نطاقاً ([2]).
هذا لا يعني بالضرورة أن مطالب الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي ستجعل الحرب حتمية، لکنه يحلل سلوکيات وسياسات الصين المرتبطة بهذه النزاعات خاصةً مع التطور والتنمية الاقتصادية والعسکرية لها، الأمر الذي يرتبط مباشرةً بمستقبل السلام والاستقرار في المنطقة. حيث يکشف تعاملها مع القضية –ومع تنامي قدراتها العسکرية- عن الوضع المستقبلي للإقليم. بمعنى أن نزاع بحر الصين الجنوبي يعتبر مؤشراً جيداً لإختبار نظرية التهديد الصيني. بالإضافة إلى ذلک، يعد هذا مقياساً مفيداً في حدود وإمکانات القوة الأمريکية وتعاملها مع المشکلات والقضايا الآسيوية من جانب، وتحقيق مصالحها مع الطرف الصيني من جانب أخر.
المشکلة البحثية
تعتبر نزاعات بحر الصين الجنوبي أحد أهم البؤر الساخنة في إقليم جنوب شرقي آسيا، ذلک لکونها منطقة صراع حول بسط النفوذ بين القوتين العظميين –الصين والولايات المتحدة الأمريکية- ومحاولة کلاً منهما بسط سيطرتها على الإقليم. فالصين في اطار سعيها نحو تحقيق والحفاظ على تنميتها الاقتصادية- مع التنامي العسکري- تسعى لبسط سيطرتها على بحر الصين الجنوبي لما يحويه من مقدرات واعتباره نقطة هامة في طريق الملاحة العالمية، مع محاولة الحفاظ على هيمنتها على الإقليم، الأمر الذي يؤدي إلى توتر علاقاتها مع عدد من الدول –الصغيرة- المشاطئة للبحر کما هو الحال مع الفلبين والفيتنام وماليزيا وبروناي. على الجانب الأخر، تهتم الولايات المتحدة بالحفاظ على تفوقها "السيادي والمهيمن" على إقليم جنوب شرقي آسيا، الأمر الذي يدفع نحو تطوير علاقاتها الأمنية والعسکرية مع دول الإقليم التي تواجه تحدي الهيمنة الصينية والتخوف من تهديدات بسط النفوذ الصيني على مقدرات البحر.
من هذا المنطلق، تدور المشکلة البحثية حول تساؤل رئيسي يتمثل في: کيف يؤثر الصعود الصيني –الاقتصادي والعسکري- على نزاعات بحر الصين الجنوبي. بمعنى أن، هل سيساهم التطور الصيني في تعزيز توترات بحر الصين الجنوبي، ومن ثم تحقيق نظرية "التهديد الصيني"؟ أم أن هذا التطور ومحاولة الحفاظ عليه من قبل حکومة بکين سوف يدعم من التوجهات الدبلوماسية لحل هذه النزاعات؟ کما تهتم الدراسة بالإجابة على تساؤل رئيسي يدور حول أثر هذه النزاعات على التعامل الصيني الأمريکي، هل سيتخذ شکل صراعي، أم ستسعى کلاً من القوتين العظميين للحفاظ على مصالحهما معاً.
أهداف الدراسة
من خلال المشکلة البحثية السابق الاشارة إليها، ومن خلال التساؤلات الرئيسية، تتحدد أهداف الدراسة في عدد من النقاط المتمثلة في:
1- التعرف على عدد من نظريات العلاقات الدولية المفسرة لنهضة الصين ومدى ارتباطها بفرضية التهديد الصيني.
2- تحديد الأهمية الجيواستراتيجية لبحر الصين الجنوبي، والوقوف على مواقف الدول المتنازعة
3- استکشاف التغيرات في سياسات ادارة بکين لهذه النزاعات.
4- تحليل التعامل الصيني الأمريکي حول هذه النزاعات.
منهاجية الدراسة:
اعتمدت الباحثة في هذه الدراسة على استخدام مقترب المصلحة الوطنية National Interest ([3]) حيث أنه يعد أحد الاقترابات الرئيسية في حقل العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، کما يعتبر من أنسب المقتربات التي يمکن اللجوء إليها في هذه الدراسة. ويقوم على مقولة أساسية مفاداها أن المصلحة الوطنية هي الهدف النهائي والمستمر والقوة المحرکة للسياسة الخارجية للدولة. ولذلک، فإن السياسة الخارجية توصف على أنها الاستخدام العقلاني للموارد المتاحة للوصول إلى تحقيق المصلحة القومية. کما يتصف هذا المنهج بأنه يوضح جانب الاستمرار في السياسة الخارجية للدول في إطار عامل محدد هو المصلحة الوطنية بغض النظر عن التبدل والتغير في الزعامات السياسية أو العوامل السياسية والاستراتيجية والايديولوجية.
وعلى الرغم من مزايا هذا المنهج إلا أنه لا يخلو من العيوب منها: أنه مفهوم غير محدد يتسم بالغموض والعمومية ويعطي المبرر لصانع القرار لاستخدام القوة العسکرية تحت مسمي المصالح الوطنية، بالإضافة إلى أنه يجرد سلوک الدولة من الأخلاقيات، کما انه يبالغ في اعتباره السلوک الخارجي للدولة رشيداً بطبعه وموجهاً لخدمة المصالح القومية، في حين أن هناک کثيراً من أنماط السلوک الخارجي للدول أبعد ما تکون عن صفة الرشد وحماية المصالح القومية.
وعليه، يعتبر هذا المقترب ملائماً لتفسير السياسة الخارجية الصينية باعتبارها التفسير العقلاني لتحقيق المصلحة الوطنية وهو التفسير الأفضل لرؤية الدور الرئيسي للأيديولوجية في صنع السياسة الخارجية الصينية.
تقسيم الدراسة:
من خلال أهداف الدراسة، يمکن تقسيم الدراسة إلى ثلاثة عناصر رئيسية:
الأول: اطار نظري تتناول فيه الباحثة التفسير الليبرالي والواقعي لأثر الصعود الصيني على نزاعات بحر الصين الجنوبي، ومدى تحقق نبوءة "تهديد الصين". أما الجزء الثاني، تتناول فيه الباحثة أهم الادعاءات التي تقدمها الدول المتنازعة حول أحقيتها من موارد بحر الصين الجنوبي، والتغير في سياسات ادارة وتعامل بکين مع هذه النزاعات، مع الإشارة لأهميته الجيواستراتيجية. وفي الجزء الثالث والأخير، تقدم فيه الباحثة تحليلاً حول التعامل الصيني –الأمريکي في اطار هذه النزاعات.
أولاً: اطار نظري: التفسير الليبرالي والواقعي لأثر الصعود الصيني على نزاعات بحر الصين الجنوبي
من الملاحظ أن هناک منظورين مهيمنين على تفسير العلاقة بين نهوض الصين وسياساتها تجاه النزاعات الحدودية في بحر الصين الجنوبي، وبالتالي أثار هذا النهوض على طبيعة النظام الأمني والاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة في آسيا –لعقود بعيدة-. هاذين المنظورين المهيمنين إنما يتمثلان في کلاً من المدرستين الليبرالية والواقعية، حيث يعرض کل منهما سيناريوهات متباينة في هذا الأمر، وهو مايدفع الباحثة إلى تناول هاذين المنظورين بشيء من التفصيل.
بشکل عام، يمکن ملاحظة ميل الليبراليون إلى تبني نظرة أکثر تفاؤلية، وإلى الترکيز على الانفتاح الاقتصادي للصين وتفاعلها بإيجابية مع الدول الأخرى، والتي ستؤدي آثارها الهادئة في نهاية المطاف إلى التحرير السياسي للصين وتشجيعها على تبني قواعد النظام الدولي الحالي.
في المقابل، يؤکد الواقعيون على ديناميات القوة المتغيرة ويجادلون بأن الصين سوف تصبح أکثر حزماً مع زيادة قوتها وتأثيرها. وبالتالي، يجب أن تکون الولايات المتحدة (إلى جانب حلفائها وأصدقائها في آسيا) على استعداد لمواجهة تحديات النظام الإقليمي والعالمي التي يطرحها هذا العملاق الآسيوي الصاعد.
هذه الخلافات بين المتفائلين الليبراليين والمتشائمين الواقعيين هي أکثر مظاهر الجدل المطروحة على نطاق واسع حول نهوض الصين وآثارها على نزاعات بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من أهمية أطروحات کل نظرية حول سياسات الصين في نزاعات بحر الصين الجنوبي، إلا أن کلاً من النظريتين تواجه عدد من نقاط الضعف، والتي ترجع إلى توقعاتهما الخطية لمستقبل السياسة الصينية تجاه النظام الدولي - سواء کانت المراجعة المتعارضة المتوقعة من قبل منظري القوة أو التکامل المتناغم الذي تنبأ به دعاة الاعتماد المتبادل- ([4]).
ولمعالجة نقاط الضعف والقصور التي شابت تحليلات منظري کلاً من الاتجاهين –الليبرالي والواقعي-، فقد تم استکشاف بعض الاختلافات في کل مؤسسة نظرية من قبل عدد متزايد من علماء العلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، لا يؤمن بعض الواقعيين بحتمية لجوء الصين إلي الاداة العسکرية في نزاعات بحر الصين الجنوبي، ومن ثم إمکانية للجوء إلى الأساليب السياسية والدبلوماسية حول هذه النزاعات. بينما يتنبأ بعض الليبراليين بمستقبل أکثر تشاؤماً مليئاً بالصراع، الذي ستلجأ فيه الصين إلى حتمية الصدام مع دول بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي سيدفع نحو توتر العلاقات مع الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأکبر لدول الإقليم. يُعد تحليل المنطق وراء هذه الآراء المتنافسة مفيداً في توجيه الباحثة لفهم واقع تأثير الصين المتزايد في آسيا وآثاره على سياسة الولايات المتحدة وکذلک مستقبل النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي.
(1) وجهات نظر الليبرالية في الصعود الصيني
لا يرى الليبراليون عادة صعود الصين تهديداً لمنطقة جنوب شرقي آسيا وبالتالي لمصالح أمريکا وللنظام الإقليمي والدولي. وبدلاً من ذلک، لديهم نظرة متفائلة نسبياً بشأن نهوض الصين ويتوقعون مستقبلاً مشرقاً لآسيا بشکل عام والعلاقات الصينية الأمريکية بشکل خاص، متأثرين في ذلک بالآثار الهادئة لبعض الآليات ذات الصلة والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً والتي يعزز بعضها بعضاً، والمتمثلة في: التحرير الاقتصادي الصيني وعضويتها في المؤسسات الدولية، وإمکاناتها المتزايدة للإصلاح السياسي وإرساء الديمقراطية. أي أن هذا الاتجاه الايجابي يستند باللأساس على نظريات الترابط الاقتصادي.
حيث يؤکد المتفائلون الليبراليون أن التبادل الاقتصادي يعزز العلاقات الجيدة بين الدول من خلال توسيع نطاق المصالح المشترکة. بالإضافة إلى ذلک، يصبح تکافل الإنتاج متکثفاً في عملية عولمة سلاسل التوريد، بينما يؤدي نهوض الأسواق إلى مايسمى بالسلام الرأسمالي، الذي يترتب عليه أن تصبح الحرب بالية نظراً لإمکانية تکوين ثروة أمة من خلال تراکم رأس المال البشري والتکنولوجيا، وليس عن طريق التوسع الإقليمي. کما ويؤکد الليبراليون أيضاً على أن الترابط الأکبر بين الدول له تأثير مقيد على سلوک الدولة من خلال رفع تکاليف الصراع العنيف فيما بينها ([5]).
وفي الواقع، ومن الملاحظ أن الصين -حتى الآن- قد استفادت بشکل هائل من التعامل والتعاون في اطار النظام الاقتصادي العالمي بدلاً من تحدي المؤسسات الدولية القائمة. بمعنى آخر، أنه يمکن القول أن النهوض الصيني والتقدم الذي شهدته إنما يرجع إلى الانفتاح الناجح لاقتصادها على مختلف المؤسسات الدولية، والذي أدى إلى ارتفاع التکاليف النقدية للتوسع من خلال الصراع العنيف بشکل کبير.
على هذا النحو، يسلط الليبراليون الضوء على التکاليف الباهظة التي سيتعين على الصين تحملها إذا ما اضطرت إلى تحمل سياسات خارجية معادية في النزاعات الإقليمية مع جيرانها أو تجاه الولايات المتحدة. أي أن من شأن العداء أن يضر بعقود من الإصلاحات الاقتصادية الناجحة، والعلاقات التجارية المربحة مع الدول الأخرى، ومشارکة الصين في نظام عالمي يدعم بشکل فعال نهضته.
بعض الليبراليين الأقل تفاؤلاً بشأن الآثار الهادئة لتحرير الصين الاقتصادي وأکثر تشککاً في تداعيات القوة المتنامية للبلاد على المسائل المهمة، بما في ذلک العلاقات الصينية الأمريکية والتوترات الجارية في بحر الصين الجنوبي. فيشير هؤلاء -المتشائمون الليبراليون- إلى الاختلافات بين الهياکل الداخلية والديناميات السياسية الداخلية للصين ودول الجوار الجغرافي لها، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ويتوقعون حدوث توترات أکبر، والتي قد تحدث نتيجة للتفاعل بين هذه البلدان والتي تتعارض قيمها الأساسية والتي لا يمکن التوفيق بين رؤيتها حول ما يشکل القيادة الإقليمية. بعبارة أخرى، ما يثير قلق -المتشائمين الليبراليين- هو الطبيعة المتباينة للنظام الصيني إزاء التحالفات والشراکات الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة. هذه التفاعلات -التي لا مفر منها بين النظامين- يمکن أن تخلق حلقة مفرغة من عدم الثقة والخوف والذي يعزز کلاً منهما الآخر. ما يزيد الأمر سوءاً هو أن الصين لا تزال نظاماً سياسياً جامداً بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، والذي تستند شرعيته إلى أيديولوجية عفا عليها الزمن فقدت معظم سحرها. وبالتالي، يواجه القادة الصينيون معضلة تکييف سياساتهم القديمة مع المجتمع الجديد الذي يزداد تعقيداً دون فقد السيطرة على النظام.
في ظل هذه الحالة، قد يختارون استخدام الجيش کتدبير تحويلي لمواجهة "التهديدات الخارجية"، بما في ذلک "التعديات الأجنبية" على سيادة الصين وسلامة أراضيها في بحر الصين الجنوبي، دون إثارة مسألة توسيع الحرية السياسية لشعوبها واحتضان مجتمع أکثر انفتاحاً کنظام أساسي، لأن القيام بذلک لا يمکن أن يقوض التماسک الداخلي على طول الطريق فحسب، بل يهدد قبضة الزعماء الصينيين على السلطة في النهاية. بالإضافة إلى ذلک، لجأت بکين إلى الوعد ببناء مستقبل اقتصادي أکثر ازدهاراً إلى جانب نداءات القومية الصينية للتعويض عن المبادئ الشيوعية التي لا صلة لها بالموضوع بشکل متزايد ولتعزيز الدعم العام للنظام. ومع ذلک، قد يکون هذا خليطاً خطيراً، بالنظر إلى أنه إذا فشل الزعماء الصينيون في الوفاء بوعد النمو الاقتصادي، فسيکونون تحت ضغط من أجل الاعتماد بشکل أکبر على النداءات القومية بإعتبارها مصدر الدعم الوحيد المتبقي ([6]).
في الواقع، يمکن أن تکون القومية واحدة من أقوى المصادر المحلية للتوسع الإقليمي، والتي يمکن أن يستغلها القادة الصينيون لتعزيز الأمن السياسي في الداخل من خلال توحيد الجمهور وتحويل إحباطاتهم إلى الخارج. وهناک عدة أسباب لترابط القومية والأراضي بشکل وثيق ويمکنهما بسهولة تقديم مبرر للدولة لاتخاذ إجراء تحويلي من خلال التوسع الحدودي باستخدام الأداة الحربية ([7]). وفي حالة الصين، هذه الحوافز قوية بشکل خاص بسبب ذکرياتها التاريخية عن فقدان الأراضي وطموحها لاستعادة مکانتها کقوة عظمى بعد قرن من الإذلال.
وفي ضوء ذلک، ينبع أحد الجوانب الرئيسية لشرعية بکين من حماية الکرامة الوطنية وعدم السماح مرة أخرى للصين بالتخويف. والأکثر من ذلک، أن عدم الاستقرار الاجتماعي المتنامي والسخط العام في الصين، الناجم عن عقود من الإصلاحات الاقتصادية السريعة -بأي ثمن- قد جعل القومية أکثر أهمية کبديل عن الإيديولوجية الحاکمة وکآلية لتوحيد البلاد والحفاظ على شرعية حالته. وبالتالي، يخشى القادة في بکين من أنهم إذا أظهروا مرونة فيما يتعلق بعلاقات الصين الخارجية، بما في ذلک مطالبها البحرية في بحر الصين الجنوبي، فيمکن اعتبارها علامة على استرضاء وضعف مشينين في الداخل. من وجهة النظر هذه، يمکن اعتبار سياسة الصين الخارجية المتمثلة في تقوية العضلات، بما في ذلک دفعها جنوباً نحو غرب المحيط الهادئ، بمثابة مناورة تفضيلية للحفاظ على التماسک والوحدة المحليين فضلاً عن شرعية النظام.
(2) وجهات نظر الواقعية في الصعود الصيني
بشکل عام، تقدم الواقعية تنبؤاً أکثر کآبة فيما يتعلق بصعود الصين وطموحاتها التوسعية. على وجه الخصوص، العلماء الذين يدعمون الواقعية الهجومية أو نظرية انتقال السلطة، فهم يأخذون تهديد الصين على محمل الجد ويتوقعون أن يکون سبباً للصراع في المستقبل. وبالتالي، فوفقاً لنظرية الواقعية الهجومية، من المحتمل أن يحدث صراع في السياسة الدولية عندما ترى الدول العقلانية القوة کمصدر نهائي للأمن وتسعى إلى تعظيم آفاقها للبقاء في عالم فوضوي من خلال التوسع، حيث تزداد قوتها بازدياد مقارنة قوتها بقوة غيرها من القوى الکبرى ([8]). من هذا المنطلق، لن يکون نهوض الصين سلمياً، خاصةً أنه يتحدى مصالح الهيمنة الحالية والقوى العظمى الأخرى في النظام إلى جانب جهودها نحو التوسع الخارجي ([9]).
على عکس الواقعية الهجومية، فإن الواقعية الدفاعية لا تنظر إلى الدول على أنها القوة العظمى العدوانية. بدلاً من ذلک ، يعد منطق المعضلة الأمنية جانباً مهماً للواقعية الدفاعية ([10]). وفقاً لهذا الرأي، قد لا يکون لدى الصين هدف وطني لتهجير الولايات المتحدة کقوة مهيمنة في آسيا وخارجها. ومع ذلک، لا تزال الواقعية الدفاعية تُظهر نظرة متشائمة إلى حد ما بشأن مستقبل نزاعات بحر الصين الجنوبي، ومن ثم العلاقات الصينية - الأمريکية بسبب آلية المعضلة الأمنية. وعليه، قد تکون سياسات الصين تجاه هذه النزاعات هي سياسات دفاعية بحتة، وبالتالي تکون سياساتها تجاه تحالفات دول الإقليم –الصغرى- مع الولايات المتحدة هي أيضاً سياسات دفاعية. ومع ذلک، فإن التدابير الدفاعية التي تتخذها کلاً من الصين والولايات المتحدة، إلى جانب حلفائه وأصدقائه الإقليميين، لتأمين موقعه، قد لا تزال تثير القلق وتشجع الجانب الآخر على النظر في اتخاذ تدابير مضادة لتخفيف الشعور بالضعف.
وعليه، فبالنسبة لمعظم الواقعيين، فإن نهوض الصين يعتبر -أمراً ضاراً- بالنظر إلى ميل القوى الصاعدة إلى أن تکون مثار للمتاعب، على الأقل بقدر ما يتعلق الأمر بنظرائها الأکثر رسوخاً في النظام الدولي. فليس من غير المألوف أن تسعى القوى الناشئة إلى تأمين حدودها وحتى لتحدي الحدود الإقليمية، واتخاذ تدابير للوصول إلى أسواق جديدة وموارد وطرق نقل. بالإضافة إلى ذلک، فمن المرجح أن يحاولوا ممارسة حقوقهم بالکامل لحماية -المصالح الأساسية- واستعادة مکاناتهم. ومن هذا المنطلق، ستنمو طموحات الصين مع زيادة قدراتها وحيث أن قوتها الجديدة تتيح لها التمتع بمزيد من فرص التأثير، وبالتالي ستکون أهداف الصين أکثر توسعية مما هي عليه الآن ([11]).
ومع ذلک، هذا لا يعني أن الصين ستلجأ إلى الآليات العسکرية واستخدام القوة في نزاعات بحر الصين الجنوبي، بل أنها -من المتوقع- ستتبع ما تتبعه جميع القوى العظمى الصاعدة، من حيث أنها لا تتفاعل ببساطة مع بيئتها الدولية، بل تعمل بدلاً من ذلک على تشکيل تلک البيئة بطرق مواتية لمصالحها الوطنية. وفيما يتعلق بالصين المعاصرة، يستنتج معظم الواقعيين المتشائمين أن البلاد -کقوة صاعدة- من المحتمل ألا تتصرف بطريقة مختلفة عن غيرها من نوعها على مر التاريخ، لتصبح أکثر حزماً مع توسيع قدراتها الاقتصادية والعسکرية. على سبيل المثال، يتوقع "جون ميرشيمر" أن تصبح الصين أکثر ميلاً بقوة إلى أن تصبح هيمنة حقيقية مثل مختلف القوى المهيمنة عبر التاريخ، طالما استمرت في تراکم قوتها. وهذا يعني أن البلاد لن تکون قوة الوضع الراهن، ولکن دولة عدوانية مصممة على تحقيق الهيمنة الإقليمية ([12]).
وبالمثل، يسلط علماء نظريات القوة الآخرين الضوء على ضرورة مراجعة نوايا الصين ، متأثرة بتزايد شهيتها الجيوسياسية، ويؤکدون أن انتقال الصين من بلد فقير نامي إلى دولة أکثر ثراءً سيؤدي إلى سياسة خارجية أکثر حزماً، مما يجعلها أقل ميلاً للتعاون مع القوى الکبرى الأخرى في المنطقة، وأکثر شغفاً بالتغيير في ميزان القوى الإقليمي، وفي نهاية المطاف تحل محل الولايات المتحدة کقوة عظمى رائدة في العالم([13]).
وعليه، فوفقاً لهذه الآراء، يمکن اعتبار قضايا مثل النزاعات الإقليمية الجارية في بحر الصين الجنوبي مصدراً محتملاً لعدم رضا الصين والانهيار النهائي للوضع الراهن. وذلک لأن الصين من المرجح أن تظهر طموحات متزايدة لتمديد سيطرتها الإقليمية إلى جانب زيادة قوتها - التي ستشمل عواقبها زيادة خطر نشوب صراع غير مقصود -أو حتى متعمد- على طول الطريق. وعلى نفس المنوال، فإن توق الصين لتحقيق الهيمنة الإقليمية من خلال القوة إذا لزم الأمر، من شأنه أن يجعل النزاعات على الأراضي في بحر الصين الجنوبي أکثر احتمالاً، لا سيما إذا اشتبکت طموحات الصين التوسعية مع مقاومة المطالبين الآخرين المدعومين من الولايات المتحدة کقوة عظمى معاصرة.
وبشکل عام، على الرغم من بعض الاختلافات داخل کل مدرسة فکرية، فإن کلاً من الليبراليين والواقعيين يطرحون نتيجتين مختلفتين –إلى حد کبير- لهيمنة الصين، وسياستها تجاه النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، والآثار الأمنية الأکبر لهذه القضية على العلاقات الصينية الأمريکية. أحد الآراء هو أن هيمنة الصين النهائية على بحر الصين الجنوبي من خلال توسعها العسکري والاقتصادي سيکون أمراً لا مفر منه. وهناک وجهة نظر أخرى تتمثل في، أن بکين سوف تحد من طموحاتها الإقليمية وستمتنع عن اللجوء إلى التوسع العسکري من أجل منع النزاعات الإقليمية التي من شأنها أن تلحق الضرر بمصالحها الاقتصادية، وتقوض تأکيدها على النهوض السلمي، وحتى تعزيز تورط الولايات المتحدة في الشؤون الآسيوية وزيادة شرعية واشنطن لإعادة التوازن إلى آسيا.
ومع ذلک، فإنه لا يزال يتعين علينا أن نرى أي من السيناريوهات سيتبين أنه صحيح. فإلى الآن اتخذت الصين موقفاً من الواقعية العملية، کما أکده العديد من خبراء الصين، فإن تفسير السياسة الخارجية الصينية بإعتبارها السعي العقلاني لتحقيق المصلحة الوطنية يظل هو التفسير الأفضل لرؤية الدور الرئيسي للإيديولوجية في صنع السياسة الخارجية الصينية ([14]). ومن الملاحظ أن الصينيين قد دعموا النظرة الواقعية للتسلسل الهرمي للقضايا في السياسة العالمية التي تتصدرها في مناسبات عديدة مسائل الأمن العسکري والسيادة الوطنية، ومزيد من القوة والهيبة من خلال القوة الاقتصادية والازدهار، والحفاظ على سياسات الدولة تحت قيادة الحزب الشيوعي الحاکم من خلال الاستقرار الداخلي، حتى من دون الاعتراف صراحة أو استخدام المفاهيم الواقعية -السياسة العليا- و -السياسة المنخفضة-.
ومن هذا المنطلق، فقد تم اعتبار القوة أداة قابلة للاستخدام وفعالة في صنع السياسة الخارجية للصين. فوفقاً "لوانغ جيسي"، يعتقد الصينيون أن استخدام القوة أو التهديد بها هو أکثر الوسائل فاعلية لممارسة القوة ولمعالجة مخاوفهم الأمنية العميقة، على الرغم من اعترافهم بأنه يمکن استخدام وسائل أخرى أيضاً. في الوقت نفسه، فقد تبنى القادة الصينيون سياسة أکثر براجماتية، والتي تُعرف بأنها سلوکيات منضبطة لا وفقاً للقيم المحددة أو المبادئ الثابتة ([15])، بل تکون مدفوعة ومشروطة بشکل کبير بإحتياجات الصين الوطنية، والأهداف السياسية، والطموحات الجيواستراتيجية.
ووفقاً "لديفيد لامبتون"، فإن السلوک العالمي لجمهورية الصين الشعبية متميز في براغماتيته المطلقة، أو ما يسمى بالأخلاق الظرفية التي يتم بها موازنة هذه الدوافع المتنافسة حيث يقرر القادة الصينيون کيفية التصرف دولياً من أجل تعظيم الفوائد في بيئة عالمية متغيرة باستمرار ومترابطة ([16]).
وعليه، فمن أجل النهوض بالمصالح الوطنية والحفاظ على النظام الحالي، فإن سعي الصين نحو الواقعية العملية قد سمح لها بالعمل مع جيرانها والقوى الکبرى داخل النظام الدولي الحالي مع تقييد نفسها في الغالب عن التعبير عن طموحاتها التوسعية، أو محاولة تغيير الوضع الراهن، أو تحدي تأثير الهيمنة الأمريکي في آسيا. حتى لو لم تکن الصين راضية تماماً عن التسوية الجيوسياسية لما بعد الحرب الباردة، فإن تعقيد حقائق القوة الحديثة جعلها مترددة في أن تکون قوة مراجعة شاملة، وذلک لأن انهيار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة يمکن أن يقوض المصالح الوطنية للصين، التي يسهلها النظام الدولي الحالي، الذي تتمتع فيه البلاد بصفتها واحدة من المطلعين الجيوسياسيين، بإمتيازات خاصة مثل حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، مع سهولة الوصول إلى التجارة والاستثمار والتکنولوجيا المتوافرة في المجتمعات الأخرى ([17]).
غير أن مايمکن أن يطلق عليه "المسار التوفيقي" لم يضمن دائماً عدم وجود توتر بين الصين وجيرانها -و/ أو الولايات المتحدة-، کما أنه لم يقضي تماماً على إمکانية التحول نحو المسار الحربي الناجم عن بعض الحوادث الخطيرة في البحر أو المناورات الدبلوماسية الخطيرة في النزاعات الإقليمية المطولة في المنطقة. ومع ذلک، فإن الحافز الذي يحفز السلام لعلاقات الصين مع جيرانها والولايات المتحدة، بدعم من الواقعية البراغماتية، قد ساد في الغالب على الدول المنتجة للصراعات حتى الآن، ويرجع ذلک إلى حد کبير إلى تداخل المصالح بين الصين والولايات المتحدة ومعظم الدول المجاورة للصين في آسيا، مما رجح من فرص الحفاظ على السلام في المنطقة، والتعاون في التعامل مع المشاکل العالمية الکبرى ذات الآثار الإقليمية. بالإضافة إلى ذلک، فإنه على الرغم من إنزعاج الصين من التفوق العسکري الأمريکي الشامل والوجود الأمريکي في آسيا، غير أن ما تسميه الولايات المتحدة بالمصالح الوطنية لم يتعارض بشکل أساسي مع تفضيل سياسة الصين لدعم الاستقرار الإقليمي.
ومع ذلک، وکما أوضح "زوشينج زاو" Suisheng Zhao، فإن السلوک الاستراتيجي البراغماتي للصين يتسم بالمرونة في التکتيکات، ويخفي حقيقتها الإستراتيجية، ويتجنب الظهور بالمواجهة، لکنه لا هوادة فيما يقوض مصالحها الوطنية الحيوية أو تتجاهل حساسياتها التاريخية ([18]).
بمعنى أن، البراغماتية في الصين، والتي سهلت نهوضها السلمي نسبياً حتى الآن، لن تضمن دعمها المستمر للاستقرار الإقليمي والوضع الراهن في المستقبل. وبدلاً من ذلک، يمکن أن تتطور واقعيتها العملية في أي من الاتجاهين. فحتى الآن، کانت إمکانات الصين للتورط في نزاع مسلح محدودة ليس بالضرورة لأن البلد سلمي حقاً أو يکره المخاطرة، ولکن لأن الفوائد التي يکتسبها من خلال الاعتماد الاقتصادي المتبادل والتعايش السلمي مع الدول الأخرى لا تزال تتجاوز التکاليف الباهظة للمخاطرة بالحرب.
هذا الرأي القائل بأن احتمال عدوان الصين العلني، بما في ذلک التوسع الإقليمي، ضعيف قد سمح للمراقبين بالتفاؤل بحذر بشأن تعامل الصين مع جيرانها، المتورطين في نزاعات إقليمية لسنوات. ومع ذلک، على الرغم من أن بکين شددت حتى الآن على أهمية الاستقرار الإقليمي والاعتماد المتبادل السلمي مع الدول الأخرى کشرط ضروري لنجاحها الاقتصادي المستمر، فقد يتغير حسابها الاستراتيجي وتحليل التکلفة، إذا رآت أن هناک مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المتعددة يمکن أن تجعل الفوائد النهائية لأعمالها القسرية والأحادية تفوق بکثير التکاليف.
هذا، ويمکن اعتبار خطاب الصين وتصرفاتها المتزايدة الحزم في بحر الصين الجنوبي بمثابة دليل على حساباتها الاستراتيجية الجديدة، والتي تنطوي على الحاجة إلى تعزيز مکانة الرئيس "شي جين بينغ" وسلطته في أجندة الإصلاح الداخلية الخاصة به. ومن منطلق هذه الخلفية، فقد برز الرأي العام کقوة قوية يمکن أن تعزز أو تقلل من شرعية الزعماء الصينيين عندما يتعلق الأمر بتقييم استجابتها لمطالب الشعب فيما يتعلق بمشاکل خارجية ضخمة وتحديات داخلية. ومع ذلک، قد لا تعتبر سياسات بکين المتمثلة في التسوية والصبر والتقارب عمليةً إذا کانت الدولة تواجه وضعاً تحتاج فيه إلى إظهار تصميمها على عدم "احتوائها" أو "تهديدها" من قبل الآخرين أو في التعامل مع مسائل السيادة والسلامة الإقليمية.
ومن هذا المنطلق، يمکن تفسير إصرار الزعماء الصينيين المتزايد على المسائل الإقليمية کجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز سلطتهم وهيبتهم ولتکيّف الصين القديمة بالحکم مع المجتمع الجديد دون أن تفقد السيطرة على النظام. وفي ظل هذه الظروف، أکد الرئيس "شي" على أنه لا ينبغي لأي بلد أن يفترض أننا سوف نتبادل مصالحنا الأساسية أو أننا سنسمح بالضرر الذي يلحق بسيادتنا أو أمننا أو مصالحنا التنموية، حتى مع إعادة تأکيد إلتزام بکين بسياسة "إرفاق النزاعات وتنفيذ التنمية المشترکة" في المياه المتنازع عليها - تمشياً مع الأفکار التي طرحها في البداية "دينغ زياو بينج" ([19]).
کقوة صاعدة، فإن لدى الصين اهتمام متزايد من حيث إظهار قوتها وحماية فخرها، وبالتالي فهي أکثر ميلاً إلى الانتقام بالقوة إذا تم استفزازها، على الرغم من أنها قد لا تزال مترددة في بدء أو الدخول في صراع عسکري مع أي من جيرانها.
وبهذا المعنى، فإن المفارقة العليا لمحور واشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والذي يُنظر إليه غالباً على أنه عملية احتواء أمريکي للحرب الباردة، موجه الآن إلى الصين، الأمر الذي يؤجج سباق التسلح وهيکل التحالف الأمريکي الذي يمثل تهديداً متزايداً للصين. فقد شجعت عدد من الدول في المنطقة بما في ذلک-الفلبين وفيتنام-، وکذلک اليابان، على معارضة الصين وتحديها، ورفض التفاوض بحسن نية لحل النزاعات، واختبار حدود بکين في ضبط النفس مع التحالفات والشراکات الدفاعية التي تقودها الولايات المتحدة، والتي تعتبر مهينة في نظر بکين([20]). بالتزامن مع صعود المنافسة القومية في المنطقة، فإن هذا قد يسهل عملية تحول ترکيز بکين من الاقتصاد إلى المخاوف الجيوسياسية، والتي بدورها من شأنها الإسراع في تعزيز دورات العدوان الذاتية بين جميع الأطراف المتورطة في النزاعات.
ومع ذلک، فإن الصراع يمکن النظر إليه على أنه خيار وليس ضرورة، على الرغم من أن النزاعات الدائمة تکون أکثر ترجيحاً إذا تعاملت الدول القائمة مثل الولايات المتحدة (مع حلفائها وأصدقائها الإقليميين) مع کل تقدم في القدرات العسکرية للصين کعمل معاد، بإعتبارها القوة الصاعدة، مع تجاهل الخط الفاصل –الضعيف- بين القدرات الدفاعية والهجومية، وتجاهل عواقب سباق التسلح غير المقيد. غير أن الواقعية العملية للصين ستوجهها لتکون أکثر ملاءمة لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية بدلاً من اختيار مراجعة معادية للوضع الراهن.
وعليه، يمکن القول بأن هذه الدراسة تتبنى وجهة النظر التي تدعم تميز السلوک العالمي للصين ببراجماتيته المطلقة أو مايمکن أن يطلق عليه "الأخلاق الظرفية" التي يتم بها موازنة الدوافع واحتياجات بکين الوطنية وطموحاتها الجيواستراتيجية مع تنوع الوسائل وآليات تحقيق هذه الدوافع طبقاً للظروف الوقتية لا وفقاً لقيم محددة أو مباديء ثابتة. بمعنى أن، على الرغم من أعتقاد الصينيون بأن استخدام القوة أو التهديد بها هو أکثر الوسائل فاعلية لممارسة القوة ولمعالجة مخاوفهم الأمنية العميقة، وعلى الرغم من اعترافهم بأنه يمکن استخدام وسائل أخرى أيضاً، فقد تبنى القادة الصينيون سياسة أکثر براجماتية، والتي تُعرف بأنها سلوکيات منضبطة لا وفقاً للقيم المحددة أو المبادئ الثابتة، بل تکون مدفوعة ومشروطة بشکل کبير بإحتياجات الصين الوطنية.
ثانياً: ادعاءات الدول المتنازعة والتغير في سياسات ادارة بکين لهذه النزاعات
يمثل المشهد الجيواستراتيجي في بحر الصين الجنوبي والشرقي مع الدول المطلة عليه وما يمثله من أهمية استراتيجية، أحد أهم النزاعات في آسيا الباسيفيک، ذلک بسبب عدد من التعقيدات والتداخلات في مواقف الدول المتنازعة. والأمر الذي يزيد الوضع خطراً الدول الأمريکي الذي يساعد في زيادة حدة التوترات والنزاعات في الإقليم.
من هذا المنطلق، ترى الباحثة ضرورة الوقوف على الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي. فالبحر الصين الجنوبي أهمية استراتيجية واقتصادية فائقة، والتي ترجع إلى وقوعه جغرافياً في نقطة إلتقاء طرق المواصلات البحرية الأکثر کثافة في العالم، حيث تمر عبره نصف التجارة الدولية مع الإمکانات السکانية والاقتصادية لدول آسيا-المحيط الهادئ. فالبحر يقع بين المحيط الهادئ في الشرق والمحيط الهندي في الغرب. وهو يغطي مساحة تصل إلى 447،3 مليون کيلومتر مربع.
يمتد من خلال عدد من الجزر بين منطقة جنوب شرق آسيا وتايلاند والفلبين وبورنيو ويرتبط ببحر شرق الصين بواسطة مضيق تايوان. وتعتبر جزر سبراتلي وبارسيل، دونغشا، شيشا، تشونغشا، وجزر نانشا أهد الجزر المتناثرة على البحر. وتعتبر النزاعات الإقليمية في منطقة بحر الصين الجنوبي نزاعات حدودية بين عدد من الدول: تايوان، الفلبين، فيتنام، ماليزيا، وبروناي. وجزر سبراتلي وبارسيل هم أهم الجزر المتنازع عليها بين هذه الدول.
ويرجع السبب الرئيس لهذه النزاعات إلى الأهمية الاستراتيجية للجزر المتنازع عليها، والمتمثلة في عاملين أساسين: الأول، وهو الأهمية الاستراتيجية، حيث تمثل ممر للملاحة العالمية والتنافس العالمي بين کلاً من القوتين العظميين –الولايات المتحدة والصين-. أما العامل الثاني والمتمثل في، غنى المنطقة بمصادر الطاقة وامداداتها، حيث تقدر المسوحات الجيولوجية احتواء المنطقة على 7.17 مليار طن من النفط الخام، بالإضافة إلى الغاز الطبيعي. الأمر الذي يصعب على الدول المتنازعة التنازل عن هذه الثروات الهائلة. أضف إلى هذه الأهمية، فإن الإقليم يمثل بالنسبة لعدد من الدول عمق استراتيجي وصمام أمان لأمنها القومي. کما ويشمل أيضاً المطالبات الإقليمية بحقوق المياه وفرض احترام الحقوق الاقتصادية على الجزر مع ضمان وصول أمن للثروات البحرية والإقليمية، الأمر الذي ترتب عليه ظهور عدد من ادعاءات وحجج کل طرف من أطراف النزاعات حول أحقيته على الجزر.
- الموقف الرسمي للصين من النزاعات على بحر الصين الجنوبي
يمکن النظر إلى کل الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي بأحقيتها في ممارسة حقوقها ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة طبقاً لقانون البحار الصادر 1982، وبالتالي، يکون لکلاً من الصين، الفلبين، فيتنام، ماليزيا، وبروناي الأحقية في السيادة على هذه الجزر. وفيما يلي تتناول الباحثة ادعاءات وحجج هذه الدول بشيء من التفصيل.
والمتتبع للموقف الصيني من هذه النزاعات يلاحظ تأکيد بکين المستمر على ضرورة تسويتها من خلال ما سمته" بالمشاورات الودية بين الدول المعنية مباشرةً"، ذلک عبر قنوات الحوار والمشاورات المفتوحة. ويعبر الموقف الصيني عن تملکها لسيادة لا جدال فيها على جزر بحر الصين الجنوبي والمياه الإقليمية لها.
يمکن استنتاج عدد من الملاحظات المتمثلة في:
1- إن تأکيد الصين لحقها في امتداد شاسع من بحر الصين الجنوبي يضعها في مواجها مباشرة مع الفلبين وفيتنام، في حين أن بروناي وماليزيا وتايوان لها أيضاً مطالبات متداخلة مع الصين - خاصة فيما يتعلق بحقوقها في استغلال النفط المحتمل تحت الماء في المنطقة- وموارد الغاز بالإضافة إلى الثروات السمکية. کما أن الحريات التقليدية في أعالي البحار معرضة للخطر، مما يجعل القضية أکثر تعقيدًا خاصةً من قوى خارج المنطقة.
2- لواشنطن مصالح في حماية حقوق الملاحة، والطيران، وإجراء مناورات عسکرية في المياه التي تدعي الصين أنها خاصة بها. کذلک، فإن الدول ذات الاهتمام المشترک بمصالح الجزر والمتمثلة في رابطة دول جنوب شرقي آسيا، وغيرها من الدول المعنية بشکل مباشر أو غير مباشر، لها مصالح مشترکة مهمة من حيث البحث عن نظام إقليمي سلمي، تتجاوز أهميته النزاعات الإقليمية بين عدد محدود من المطالبين.
3- تمسک الدول المتنازعة بمواقفها من امتلاک قح ممارسة السيادة على الجزر واعتبارها ضمن مناطق الاقتصادية الخالصة لها.
4- يمثل الدور الأمريکي محوراً أساسياً في دعم أطراف النزاع ودفعها نحو تصعيد النزاع الإقليمي مع الصين وتعزيز التحالفات الآسيوية المدعمة للدور الأمريکي، ذلک من منطلق ضمان استمرار التواجد الاستراتيجي الأمريکي في المنطقة.
هذا، في عام 2010 حددت بکين لأول مرة حماية سيادتها في بحر الصين الجنوبي باعتبارها "مصلحة أساسية" لا يمکن المساس بها، إلى جانب تايوان وکلاً من إقليمي التبت وسينجيانغ التي سبق أن طالبت بهما، مشيرةً إلى -استعدادها للرد على الإجراءات التي تعتبرها صعبة- تلک المصالح الوطنية المتمثلة في السيادة والسلامة الإقليمية والحقوق البحرية ([21]).
في العام التالي، أعلن وزير الدفاع الصيني "ليانغ غوانغ لي" "تعهدًا رسميًا" من قبل بلاده -بعدم السعي إلى الهيمنة- وألمح إلى أن سياسة الصين في بحر الصين الجنوبي کانت -دفاعية بحتة في طبيعتها- ([22]). جاء هذا التصريح وسط تصاعد التوترات عبر بحر الصين الجنوبي خلال النصف الأول من العام 2011، ذلک في أعقاب التدريبات البحرية غير المسبوقة للنيران الحية في فيتنام بعد اتهامها الصينيون بهجوم -متعمد ومحسوب- على سفن الفيتنامية التي تنقب عن النفط ([23]).
وقد ترتب على ذلک وجود قلق شديد ليس فقط في الفلبين، ولکن أيضاً بين معظم جيرانها فيما يتعلق بطموحات الصين الإقليمية وضرورة النظر في خطاب بکين اللطيف على أنه ليس أکثر من تمويه لتوسعها التدريجي. وقد قوض ذلک مباشرة أجندة بکين لإبراز صورتها کنظام ملتزم بالتنمية السلمية. وبالمثل، فإن التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي يمکن أن تقوض المصلحة الوطنية للصين في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهو أمر ضروري لتحقيق الهدف السياسي الأعلى المتمثل في الحفاظ على معدلات التنمية الاقتصادية المستمرة التي تحققها الصين.
علاوة على ذلک، فإن التوترات المتصاعدة بشأن النزاعات الإقليمية يمکن أن تجعل الصين تفقد نفوذها على منافسيها الأقوياء، وخاصة الولايات المتحدة، إذا کان يتعين على واشنطن استخدام الخلافات حول بحر الصين الجنوبي لتحقيق هدفها الأوسع المتمثل في کسب نفوذ استراتيجي واقتصادي أعمق في المنطقة.
بناءً على هذه التقييمات، قررت الصين تخفيف موقفها تجاه الآسيان کمجموعة واتخذت سياسات دبلوماسية تجاه عدد من الدول –الفردية- في المنطقة من خلال مواقف أکثر إيجابية وعملية تمشياً مع سياسة -حسن الجوار-. فعلى سبيل المثال، على الرغم من تمسکهم المستمر بمبدأ حل القضية من خلال التفاوض مع الأطراف المعنية مباشرةً والجهد المتواصل لتجنب تدويل القضية، تعهد القادة الصينيون بإجراء مشاورات مع دول جنوب شرق آسيا لتجنب تصاعد التوترات والحفاظ على علاقات التعاون بين الصين والآسيان، والتحول إلى مرحلة الصراع المحتمل ([24]).
ويمکن النظر إلى هذا التغير في سلوک الحکومة الصينية في ادارة النزاعات في بحر الصين الجنوبي أنها جاءت نابعة من التمسک والتنفيذ الکامل لإعلان 2002 ([25]) بشأن سلوک الأطراف في الإقليم، کخطوة أولى نحو تسوية النزاعات بالوسائل السلمية، وکمبدأً توجيهياً نهائياً للأطراف المعنية لإدارة خلافاتهم بشکل بناء. وقد حظيت هذه البادرة بالترحيب على نطاق واسع في المنطقة بإعتبارها خطوة عملية إلى الأمام، بالنظر إلى أن الصين کانت قد رفضت من قبل أي جهود من جانب أعضاء الآسيان وحلفائهم الغربيين، وعلى الأخص الولايات المتحدة، لإنشاء منتدى إقليمي متعدد الأطراف لحل قضية بحر الصين الجنوبي.
وفي اطار التعامل الصيني مع الدول المتنازعة ککل، فقد قدمت بکين سلسلة من التدابير الجذابة لمجموعة الآسيان، دافعة من أجل تکامل أقوى مع الاقتصادات الإقليمية بينما تخفي عصيها على أمل إبراز المصير المشترک للصين ودول الآسيان. لم يکن الدافع وراء هذا النهج هو المصالح التجارية لبکين فحسب، بل أيضاً الضرورات الإستراتيجية للتغلب على قوة واشنطن ونفوذها في المنطقة، وجعل دول جنوب شرق آسيا تعتمد بدرجة أکبر على الصين في التجارة والاستثمار.
وهذا ما أکده الرئيس الصيني "شي" خلال خطابه أمام قمة المديرين التنفيذيين لأبيک في أکتوبر 2013 أن "الصين لا يمکن أن تتطور بمعزل عن آسيا والمحيط الهادئ، بينما لا يمکن أن تنمو منطقة آسيا والمحيط الهادئ دون الصين" في محاولة منه للتأکيد على الحلول السلمية دون تدخلات القوى الخارجية ([26]).
ومن بين الجهود الصينية الرامية إلى التأکيد على التعاون والحلول السلمية لإصلاح العلاقات الإقليمية ([27]):
1- تعزيز دور الصين کشريک إقليمي رئيسي
2- الکشف عن مبادرات الصين للسياسة الخارجية الأکثر ليونة، والتشديد على استعداد بکين لبناء جسور الثقة السياسية والاستراتيجية مع جيرانها الحذرين.
3- تعزيز التعاون بين الصين - الآسيان من خلال انشاء منطقة التجارة الحرة، وتوسيع قنوات الاستثمار والتمويل لتعزيز العلاقات.
4- اللجوء للدبلوماسية المتعددة الأطراف. حيث حاولت بکين تعزيز علاقاتها الثنائية بعدد من أعضاء الآسيان -بما في ذلک حتى- الدول العالقة في نزاعات إقليمية مع الصين مثل ماليزيا وبروناي وفيتنام، ذلک من خلال تقديم حزم اقتصادية وتسليط الضوء على مصيرهم المشترک.
5- التأکيد على وجهة نظر بکين حول أن التعاون بينها ودول الآسيان، إلى جانب صداقة الصين مع عدد من الدول الفردية في المنطقة، يعتبر المفتاح ليس فقط لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين الصين والمنظمة الإقليمية، ولکن أيضًا لبناء الثقة اللازمة لتخفيف التوترات الإقليمية وتعزيز وضع القوة الرئيسية للصين.
وعليه، فقد اهتمت الصين -فيما يتعلق بالنزاعات في بحر الصين الجنوبي-أن لا تنحرف أبدًا عن موقفها من أن النزاعات ليست مشکلة بين الصين والآسيان، وبالتالي لا ينبغي أن يتأثر التعاون بين الصين والآسيان بمثل هذه الخلافات. حيث حافظت الصين على وجهة نظرها المؤکدة على أن التعاون الإقليمي، وليس النزاعات حول الجزيرة، يجب أن يکون في صلب العلاقات بين الصين. ويرجع ذلک جزئيًا إلى الحساب الاستراتيجي الجديد لبکين، والذي تم إجراؤه في مزيج من العوامل الداخلية والخارجية المرتبطة بشکل لا ينفصم، مما أدى إلى إعادة النظر في تکلفة وفوائد أفعالها القسرية الانفرادية في بحر الصين الجنوبي.
وقد تمثل العامل الداخلي الرئيسي المؤثر على موقف بکين التعاوني لحل نزاعات الإقليم، على النمو الاقتصادي الاستثنائي للصين، والذي قام على تبني بعض جوانب الرأسمالية على مدار العقود القليلة الماضية، آثاراً سياسية کبيرة وکذلک تغييرات اقتصادية مهمة في سياق اتخاذ قرارات اقتصادية مهمة من أيدي مخططي الدولة المرکزية والبيروقراطيون، والتي تشمل عواقبها توازناً جديداً بين المجتمع والدولة مع قادة أقل هيمنة يواجهون مجتمعاً وأفراداً أقوى وأکثر تعددية.
وقد کان للدور الأمريکي في المنطقة وعلاقاتها بدول النزاع أکبر الأثر في تغيير شکل التعامل الصيني ليتخذ شکلاً تعاونياً أکبر مع نزاعات بحر الصين الجنوبي. فعلى الرغم من انشغال الزعماء الصينيين بالتحديات الداخلية الهائلة الخاصة بهم، فإنهم أيضًا ملتزمون جداً بعلاقات مع القوى الخارجية. حيث يفترض الصينيون أن الولايات المتحدة من غير المرجح أن تشترک في نزاع عسکري في الفناء الخلفي للصين، وهو افتراض تم إجراؤه بعد سنوات من مراقبة التردد الأمريکي بشأن التدخل العسکري في أماکن مثل سوريا وأوکرانيا. کما أن هناک قناعة متنامية بالتراجع الأمريکي -إلى جانب الشک- حول جهود واشنطن لإطالة القيادة والهيمنة الأمريکية على آسيا من خلال التحوط ضد الصين ومنعها من استبدال الولايات المتحدة کقوة عظمى. وهذا ماتم التأکيد عليه من خلال تحذير بکين من أي محاولة لقوة واحدة، -في اشارة ضمنية إلى محور واشنطن في آسيا- للسيطرة على الشؤون الإقليمية، ومن ثم الدعوة إلى إطار أمني آسيوي جديد لمواجهة الولايات المتحدة ([28]).
هذا، ومع تزايد أهمية الدور الذي يلعبه البحر کدرع الأمن الطبيعي الصيني للمناطق والموانئ الجنوبية المکتظة بالسکان، فقد تزايدت معه التوترات في بحر الصين الجنوبي، حيث شهدت السياسة الخارجية الصينية في التعامل مع هذه التوترات تطوراً ملحوظاً أکدت من خلاله على استخام المزيد من الأدوات الدبلوماسية وتجنب الدخول في تعاملات صراعية صدامية مع الدول المشترکة في النزاع. اتضح ذلک بصور جلية مع اتخاذ الصين قرار في أوائل مايو 2014 بنشر منصة العملاقة للتنقيب عن النفط Hai Yang Shi You (HYSY) 981 في المياه المتنازع عليها بالقرب من جزر Paracel قبالة فيتنام، الأمر الذي يکشف عن لمحات تصميم بکين المتعمد على تغيير البيئة الإقليمية لصالحها. فقد عزز نشر منصة النفط –أيضاً- مفهوم أن تصبح بکين "أکثر نشاطًا في تعزيز دبلوماسية الأطراف" من خلال مراقبة وتأمين الموقف، ومحاولة إخفاء قدراتها ([29]).
ومع ذلک، فإن نشر الصين لمنصة التنقيب عن النفط HYSY 981 مثل عملاً استفزازياً أدى إلى نتائج عکسية، حيث أدى إلى مناوشات بين سفن خفر السواحل الصينية والفيتنامية وأعمال شغب قاتلة معادية للصين في فيتنام، الأمر الذي ترتب عليه اضطرار بکين إلى إجلاء أکثر من 3000 مواطن صيني بعد الهجمات عليهم في المصانع ومشاريع البناء في فيتنام. فقد مثلت حادثة HYSY-981 وما ترتب عليها أحد أهم العوامل دفعت بدول جنوب شرق آسيا إلى اتخاذها موقفاً أکثر تشککاً في طموحات الصين الإقليمية، ووصفها بالعدوانية، مما ترتب عليه تزايد إقناع جيرانها بالحاجة إلى تعزيز علاقاتهم مع الولايات المتحدة.
في اطار هذه الأثار المترتبة على حادثة HYSY-981، أعلنت الصين في 15 يوليو 2014 أن عمليات التنقيب التجارية قد اکتملت قبل شهر کامل من الموعد النهائي الأصلي في 15 أغسطس، وأنه سيتم إزالة منصة الحفر العملاقة للنفط من المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وسحبها مرة أخرى إلى جزيرة هاينان، وإنهاء المواجهة المادية في البحر بين السفن الصينية والفيتنامية وبالسرعة التي بدأت بها ([30]).
ومن أهم التفسيرات التي طرحت للانسحاب المبکر من منصة النفط على نطاق واسع، على أنه نهج بکين العملي لحفظ ماء الوجه في اطار تخفيف التوترات وإصلاح العلاقات مع فيتنام، مما أدى إلى تحول تکتيکي في السياسة الصينية من المواجهة في البحر إلى الدبلوماسية والحوار السياسي ([31]).
- مواقف الدول المتنازعة على بحر الصين الجنوبي
زادت الخلافات البحرية الصينية مع عدد من دول جنوب شرقي آسيا من المخاوف بين المشارکين بشکل مباشر أو غير مباشر في الخلافات بسبب تزايد احتمال نشوب نزاع مسلح أو تأثير سلبي على خطوط الشحن البحري. وفقاً لاستطلاع Pew Research لعام 2014، فإن عدد "ثمانية" دول –تمثل الأغلبية- من الدول الآسيوية الـ 11 التي شملها الاستطلاع، بما في ذلک بعض أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، قلقة بشأن النزاعات الإقليمية بين الصين والدول المجاورة، والتخوف من احتمالية نشوب نزاع عسکري.
فبالنسبة للفلبين –وهي دولة رئيسية في مواجة الصين حول موارد بحر الصين الجنوبي- فقد احتلت نسبة 93%، و84% بالنسبة للفيتنام باعتبارها دولة رئيسية –أيضاً- في المواجهة مع الصين ([32]). هذا، وعلى الرغم من مخاوفهم الأمنية العامة بشأن تزايد تأکيد الصين وقوتها العسکرية الصاعدة، فإن عدداً من أعضاء الآسيان المهمين يهتمون بدعم وتعزيز العلاقات مع الصين: وهذه الدول التي احتلت تقديرات أقل في استطلاع Pew Research تايلاند 75%، وماليزيا 69%، وإندونيسيا 55%. حيث تنظر هذه الدول باهتمام لموضوعات التنامي والتطور الصيني والذي له أکبر الأثر في دعم العلاقات معهم.
وعليه، فإن وجهة النظر المنقسمة بين جيران الصين الآسيويين، وخاصة أعضاء الآسيان، بشأن نهوض الصين وتعاملها مع هذه النزاعات، تلقي بعض الضوء على سبب عدم وجود آسيان في موقف موحد لسنوات، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع نزاعات بحر الصين الجنوبي. فقد أظهرت الدول الأعضاء في الآسيان إجماعاً على الأهداف العريضة لتحقيق (COC)Code of Conduct- حتى في الوقت الذي تقر فيه بأن الکود ليس عصا سحرية لحل النزاعات الأساسية تماماً، وهو مايمثل الموقف الرسمي للمجموعة ([33]).
فإن التمسک بقواعد وقوانين COC هو شرط ضروري لتعزيز الثقة على مستوى المنطقة ولتجنب الفوضى، حيث سيکون هناک خطر أکبر من تصاعد التوترات بسبب سوء التقدير بدونها. ومع ذلک، لا تزال هناک نزاعات محددة، ناهيک عن عدم توافق الأفضليات بين الصين وبعض أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا - وأبرزها الفلبين وفيتنام. في الوقت نفسه، فإن تقارب المصالح بين الصين وبعض دول الآسيان -بما في ذلک تلک التي تخوض نزاعات في بحر الصين الجنوبي- قد دفع تلک الدول إلى التقليل من حدة هذه التوترات، وأن تنآى بنفسها عن هذه القضية تحديداً، وأن تعمل على تقوية وتعزيز مرابحتها الاقتصادية مع بکين.
تم تجسيد الانقسام بين دول الآسيان حول نزاعات بحر الصين الجنوبي بشکل واضح في قمة الآسيان عام 2012 عندما أبقت کمبوديا - رئيس الآسيان وحليف الصين الوثيق- القضية خارج جدول الأعمال، الأمر الذي أدى إلى الفشل في إصدار بيان مشترک نهائي لأول مرة في تاريخ المجموعة. وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين رئيس الوزراء الکمبودي "هون سن" والفيتناميين، فإن اعتماد کمبوديا على المساعدات والاستثمارات الصينية -بقيمة تزيد على 11 مليار دولار خلال العقدين الأخيرين- وموقع کمبوديا کطرف لا يشارک مباشرةً في النزاعات الإقليمية، قاد ذلک لدعم المزاعم الصينية، وتقوية موقف بکين، وجعل الآسيان کتلة تجارية مختلة وظيفياً غير قادرة على التفاوض من أجل نفسها ([34]). کما أظهرت افتقار الآسيان للإرادة الموحدة لمواجهة الصين أيضاً.
أما بالنسبة لبروناي وماليزيا، فقد قللوا من المخاوف بشأن التهديد الذي تشکله السفن البحرية الصينية التي تقوم بدوريات في مياه المنطقة. وعلى الرغم من التوترات حول بحر الصين الجنوبي، فإن هاتين الدولتين لا ترى سبباً للتعامل بحذر مع الصين، وهذا مايفسره الترابط المعقد والمربح –في کثر من الأحيان- في علاقاتهم مع الصين.
من ناحية أخرى، تخوض فيتنام والفليبين معارک مريرة ضد الصين على حول بحر الصين الجنوبي، بما في ذلک "الباراسيلس والسبراتليز".
- موقف حکومة فيتنام
فقد اهتمت باتخاذ –في بعض الأحيان- نهج يتسم بالدقة والواقعية في التعامل مع الصين، ومع ذلک کانت إلى جانب الفيلبين، واحدة من أکثر المعارضين لطموحات الصين التوسعية. ويرجع ذلک، -إلى حد کبير- بسبب عدم قدرة "هانوي" على تجاهل الوضع الاقتصادي للصين کأکبر شريک تجاري لها وأهم مستثمر.
فقد أدى نهوض الصين السريع إلى زيادة الحاجة إلى أن تهتم "هانوي" بدعم علاقتها مع بکين بطريقة أکثر براجماتية. ومن هذا المنطلق، فقد حاولت "هانوي" إعطاء أولوية لمصالحها المشترکة مع الصين على الرغم تاريخ العلاقات المعقد بين الطرفين والتي کانت الصين خلالها جزءاً من أکثر أعداء فيتنام المخيفين. غير أن هذا التقارب قد تراجع بصورة کبيرة في مايو 2014 بعد وضع منصة النفط الصينية في المياه التي تطالب بها فيتنام، مما تسبب في احداث مايمکن أن يوصف بأنه "أخطر تدهور" في العلاقات الصينية الفيتنامية منذ حرب الحدود عام 1979.
بشکل عام، يمکن القول بأنه کان على فيتنام أن تکون أکثر حذراً بشأن التعامل مع استفزازات الصين، حتى أثناء الاستعداد لحرب محتملة مع الصين والسعي للخروج من الظل الاقتصادي لها. في الوقت نفسه، يمکن القول بأن شکوک فيتنام الدائمة فيما يتعلق بنهضة الصين، قد شجعت الزعماء الفيتناميين على الموازنة بعناية وتحسين العلاقات مع القوى العالمية الأخرى، بما في ذلک الولايات المتحدة وروسيا. فقد اهتمت فيتنام بإعادة بناء علاقاتها مع روسيا، التي تعهدت –من جانبها- بتقديم قروض لمساعدة فيتنام على تحديث معداتها العسکرية وتوفير الإمدادات العسکرية الروسية، بما في ذلک ست غواصات هجومية مقدمة إلى البحرية الفيتنامية ([35]).
بالإضافة إلى ذلک، حاولت هانوي استخدام التنافس المتصاعد بين بکين وواشنطن لتعزيز الميزة الجيوسياسية والاقتصادية لها، حيث تحرص القوتان الرئيسيتان على جذب فيتنام بعيداً عن مدارها الاستراتيجي، على أمل الحصول على وصول أکبر لصادراتها إلى الولايات المتحدة. فقد سعت هانوي إلى تحقيق التوازن بين بکين وواشنطن دون أن تذهب بعيداً في أي من الاتجاهين، وذلک لتعظيم موقعها المستقل وقوتها الجيوسياسية –حتى وان کانت قوة صغيرة-.
- موقف حکومة الفلبين:
في المقابل، اتخذت مانيلا موقفاً أکثر وضوحاً وأقل مساومةً، وانتقدت علناً استراتيجية بکين للتغلب على الفجوة. فمن الناحية الواقعية، فإن الفلبين غير مناسبة لمواجهة الصين بمفردها بسبب تباين القوة الثنائية، حيث يعد الجيش الفلبيني من أضعف الجيوش في المنطقة، ويمتلک ميزانية عسکرية تبلغ 40 في المائة من حجم ميزانية بکين. کما أن الفلبين غير قادرة على تحدي الصين مباشرةً بسبب وضعها في المرتبة الثانية کأکبر اقتصاد في العالم وواحدة من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي. وهذا يوفر لمانيلا قوة اقتصادية ودبلوماسية أضعف بکثير من بکين.
في ظل هذه الظروف والمعطيات، حاولت الفلبين تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة -حليفها الرئيسي- وتمشياً مع إعادة توازن واشنطن إلى آسيا. بالإضافة إلى ذلک، فقد تبنت الفلبين حملة ساحرة مع اليابان -وهي حليف ديموقراطي آخر لأمريکا في آسيا- وهي منافس إقليمي رئيسي للصين. ولقد لجأت الفلبين إلى ذلک، من خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية وتعزيز علاقاتها العسکرية مع مجموعة کبيرة من الدول في المنطقة، الأمر الذي يجعل من المحتمل أن تصبح جنوب شرق آسيا ساحة قتال رئيسية للمنافسة الصينية اليابانية.
ومن هذا المنطلق، فقد اتخذت إدارة "آبي" سلسلة من الحوارات الاستراتيجية والتبادلات الدفاعية مع عدد من دول جنوب شرق آسيا، والتي کان من بينها: توفير قوارب دورية لخفر السواحل الفلبيني، ومضاعفة ميزانية المساعدات العسکرية لإندونيسيا وفيتنام لبناء نطاقات أوسع للشراکات الإقليمية، وتعزيز القدرات البحرية الإقليمية لمواجهة الخطر الإقليمي للصين بشکل أکثر فعالية ([36]).
هذا، وفي الوقت الذي کان فيه معظم أعضاء رابطة دول جنوب شرقي آسيا يترددون في اختيار الجانبين –الصيني والياباني- علانيةً -بالنظر إلى قربهم الجغرافي ومصائرهم المشترکة مع الصين- رحبت الفلبين بدفع رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" لتوسيع دور اليابان العسکري والسماح بإعادة تفسير دستور اليابان السلمي. مثل هذه الإصلاحات، سمحت للقوات المسلحة اليابانية بلعب دوراً أکبر في الدفاع الجماعي عن النفس ضد عدو مشترک ([37]).
مما سبق، يمکن ملاحظة محاولة معظم أعضاء الآسيان إقامة توازن بين التهديدات والمصالح التي تشکلها الصين، لأن فرص الأعمال والتجارة التي توفرها هذه العملاقة الصاعدة، بالإضافة إلى دعوات بکين لبناء شراکة استراتيجية شاملة، تبدو أکثر واعدة على المدى الطويل من تدابير المساعدة التي تقدمه اليابان والتي يمکنها القيام به.
في ظل هذه الظروف، أدى تقارب المصالح بين مانيلا وطوکيو في العديد من القضايا، بما في ذلک تصوراتهم حول التهديدات المشترکة فيما يتعلق بتأکيد بکين في بحر الصين الجنوبي والشرقي، إلى قيام الشراکة الاستراتيجية بين الجانبين، وتعزيز التعاون الثنائي في مجال الشؤون البحرية، ذلک من خلال تدابير مثل إرسال سفن دوريات من خفر السواحل الياباني إلى الفلبين. بمعنى أن التعاون الدفاعي الفلبيني الياباني المشترک ساعد في تقديم شريک مستعد للتعويض عن افتقار الفلبين إلى القوة العسکرية.
أضف إلى هذه التدابير الأمنية التي اتخذتها الفلبين، فقد اتخذت إجراءات قانونية تحت رعاية إتفاقية الأمم المتحدة لقوانين البحار في يناير 2013، لمواجهة الغارات الصينية على ما تعتبره الفلبين مجالها البحري، الأمر الذي دفع بکين إلى ادانة هذا العمل، غير أن مانيلا واصلت الإجراءات على أمل أن تحمل قضيتها القانونية ضد الصين ثقلاً أخلاقياً وسياسياً کبيراً ([38]).
هذه التدابير الأمنية التي اتخذتها مانيلا ضد السياسات الصينية، دفعت معظم أعضاء رابطة دول جنوب شرقي آسيا -حتى تلک الدول التي أثارتها مطالبات الصين- إلى التردد في تقديم دعم دبلوماسي صريح للتحکيم بالنسبة مانيلا، ويرجع السبب في ذلک إلى التخوف من نفوذ بکين المتزايد في المنطقة، ومخاوفهم من أن القضية القانونية قد يکون لها انعکاسات سلبية على العلاقات مع الصين ([39]). بمعنى أن، دبلوماسية الآسيان وسط تهديد الصين أظهرت مزيدًا من الفشل في تقديم جبهة موحدة للنزاعات البحرية ومحاولة إقناع الصين بممارسة ضبط النفس في بحر الصين الجنوبي.
مما سبق يتضح أن، النزاعات الساخنة في بحر الصين الجنوبي قد عززت من التنافس الکبير بين القوى الصينية والأمريکية وبروز الأهمية الاستراتيجية لدول جنوب شرق آسيا، حيث تتنافس بکين وواشنطن على الفوز بمصالح هذه المناطق الإقليمية في مواجهة سياسة بعضهم البعض لاحتواء الآخر.
کما ساعدت النزاعات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي في فضح المصالح والانقسامات المتضاربة بين أعضاء الآسيان وافتقارهم إلى رؤية استراتيجية متماسکة للمستقبل. على وجه الخصوص، زادت وجهات نظرهم المتباينة حول أفضل السبل للتعامل مع تأکيد بکين المتنامي من احتمال أن يکونوا -تحت رحمة التنافس بين القوى العظمى بين الصين والولايات المتحدة من أجل التأثير الإقليمي- وأن يقعوا في وسط الصراع بين الاثنين في المستقبل ([40]).
ثالثاً: التعامل الصيني- الأمريکي حول نزاعات بحر الصين الجنوبي
بتحليل تقرير لجنة المراجعة الأمنية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين لعام 2013، فإن التحديث العسکري للصين، والاقتصاد المتنامي، والنفوذ الدبلوماسي المتزايد، إنما يعزز من قدرة بکين على فرض مطالبها الإقليمية في بحارها القريبة، بما في ذلک بحر الصين الجنوبي والشرقي، والبحر الأصفر ([41]).
فعلى الرغم من أن نزاع بحر الصين الجنوبي ليس جديداً، إلا أن مخاطر النزاع بين القوات العسکرية الأمريکية و/ أو حلفاء أمريکا من جانب واحد، ونظرائهم الصينيين على الجانب الآخر تتزايد، ويرجع ذلک -إلى حد کبير- إلى أن مطالبات الصين الثابتة بالسيادة على المياه المتنازع عليها في المنطقة مدعومة بتحديثها العسکري المستمر ونفوذها الاقتصادي المتزايد. بمعنى أنه، کلما تزايدت القدرات العسکرية للصين، تزايدت معها مطالبها بالسيادة على بحر الصين الجنوبي.
أضف إلى ذلک، فإن الانخفاض النسبي في قوة الولايات المتحدة إنما يقوض ببطء عقود أمريکا من التفوق العسکري ونفوذ الهيمنة في آسيا وخارجها. ومع ذلک، فإن تقرير اللجنة الأمنية والاقتصادية يؤکد على إنه لا يزال من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة الحفاظ على وجود عسکري موثوق في آسيا -بالنظر إلى أن الصين أصبحت أکثر قدرة على استخدام قوتها المتنامية- لدعم التکتيکات القسرية التي تضغط بها الصين على جيرانها للتنازل عن مطالباتهم في بحر الصين الجنوبي.
ويؤکد التقرير کذلک على الأهمية المتزايدة لتعميق الروابط الأمريکية مع الحلفاء والشرکاء في آسيا، والحاجة إلى تعزيز قدرة استعداد القوات الأمريکية في غرب المحيط الهاديء لموازنة القدرات العسکرية المتنامية للصين بما فيها أصولها البحرية المتزايدة.
ومن هذا المنطلق، فقد اتخذت الولايات المتحدة عدداً من التدابير المتمثلة في:
1- دعم وتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع عدد من الدول في منطقة آسيا والمحيط الهاديء، بما في ذلک الأعضاء الرئيسيين في رابطة دول جنوب شرق آسيا مثل: إندونيسيا والفلبين وسنغافورة وفيتنام.
2- ازداد تواتر التدريبات العسکرية المشترکة بين الولايات المتحدة وبين عدد من البلدان في المنطقة، بالاقتران مع إعادة التوازن الاستراتيجي لواشنطن إلى آسيا.
3- دعم وتعزيز العلاقات الدفاعية الأمريکية المتنامية مع سنغافورة، والانتشار الأمامي للسفن القتالية الأمريکية فيها کجزء من تجسيد ملموس لإلتزام واشنطن بإعادة التوازن. حيث وصلت "يو إس إس فريدوم" إلى سنغافورة في أبريل 2013 کجزء من خطط واشنطن لزيادة الوجود العسکري الأمريکي في المنطقة ([42]).
4- تعهدت الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات العسکرية مع الفلبين -أحد أقدم حلفاء أمريکا في المنطقة- لتأمين الممرات البحرية لجنوب شرق آسيا بما يتماشى مع مبدأ حرية الملاحة. کما سعت واشنطن إلى تعزيز دعمها السياسي لمانيلا کجزء من المحور الاستراتيجي لآسيا، والدفاع عن حليفتها من العدوان المتزايد للصين في المياه التي تطالب بها الفلبين.
هذا، وعلى الرغم من أن بکين نظرت بحذر إلى -محور آسيا- کمحاولة أمريکية لحشد تلک الدول ضد الصين، فقد حذرت بکين واشنطن من بذل الجهود لإلحاق الأذى بالمصالح الجوهرية للصين، من خلال تعزيز روابط أمريکا مع دول آسيا والمحيط الهادئ، واشتعال التوترات في مياه المنطقة، کما أنها عبرت عن معارضتها استخدام مسألة حرية الملاحة کذريعة للتدخل في الصين وفي علاقاتها مع دول الآسيان.
أحد أهم الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة الأمريکية إلى اتخاذ مثل هذه المواقف تجاه نزاعات بحر الصين الجنوبي، هو اهتمامها الکبير وتأکيدها في الحفاظ على الحريات الملاحية العالمية والتجارة دون عوائق عبر البحار، والتي تشمل هذه الممرات البحرية المزدحمة في بحر الصين الجنوبي، والتي تعتبر حيوية للتجارة العالمية. وهکذا، فإن الولايات المتحدة -لأسباب استراتيجية وتجارية على حد سواء- کانت مؤکدة دائماً لحرية البحار، وهي أيضاً تعتبر مصلحة جماعية مهمة للعالم.
وعليه، فقد سلط المسؤولون الأمريکيون الضوء على أهمية اللجوء للأداة الدبلوماسية بإعتبارها الطريق الأکثر حکمة لإخضاع المخاوف الإقليمية بشأن قوة الصين المتزايدة، الأمر الذي أکدوا عليه مراراً وتکراراً مسؤولون أمريکيون على أن استراتيجية أمريکا تجاه آسيا ليست مصممة للرد على الصين أو في صراعها معها ([43]). کما يرجع السبب في الاهتمام -بصورة أکبر- والترکيز على الأداة الدبلوماسية في نزاعات بحر الصين الجنوبي، والتردد الأمريکي في استخام القوة في التعامل مع الصين، هو الأهمية الشاملة للتعاون الصيني الأمريکي، وهو أمر حيوي للسلام والاستقرار العالميين ([44]).
وفي ضوء هذا الواقع، يبدو أن الولايات المتحدة قد عقدت العزم على ذلک، لمنع نزاعات جزيرة آسيا من تقويض العلاقات الصينية الأمريکية الشاملة، والتي لا يمکن المبالغة في التأکيد على أهمية کل بُعد لها. فعلى الرغم من قلق أمريکا من الآثار المزعزعة للاستقرار في الادعاءات الإقليمية للصين، غير أنها –الولايات المتحدة- لديها القليل من الاهتمام برؤية حلفائها الإقليميين وأصدقائها -ناهيک عن شريکها التجاري الحاسم الصين- متورطون في صراعات عسکرية لتسوية نزاعاتهم حول ملکية الجزر واستخدام مواردها المائية، أو نطاق البحار الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة ([45]). وعليه تهتم باللجوء في تلک النزاعات الى الحلول من خلال المفاوضات الدبلوماسية والتنازلات العملية.
- مستقبل التعامل الصيني-الأمريکي حول نزاعات بحر الصين الجنوبي
بشکل عام، يمکن القول بأن النزاعات الإقليمية المستمرة في بحر الصين الجنوبي لها آثار هائلة على الأمن العام في آسيا وخارجها، ويمکن النظر إليها کحالة اختبار حرجة من شأنها أن تضيء آفاق قدرات بکين واستعدادها لتغيير الوضع الإقليمي الحالي وسط التنافس الجيوسياسي بين القوات الأمريکية -التي ما زالت بارزة-، والجيش الصيني السريع التحديث في عصر العولمة. حيث ترتبط الدولتان -بشکل لا ينفصم- استنادًا إلى روابط القضية المختلفة والمصالح الاقتصادية المتشابکة عن کثب.
فقد أصبح التعامل الأمريکي مع ما يسمى "بالمشکلة الآسيوية" يمثل اختباراً هاماً للوضع المستقبلي للأولوية الأمريکية، حيث تواجه فرصاً حاسمة لإثبات قدرتها على الهيمنة ومهاراتها العسکرية والدبلوماسية لحماية حلفائها وأصدقائها، من خلال التنافس مع الصين الصاعدة. وبالتالي، قد تکون المنافسة بين الولايات المتحدة الأمريکية والصين أمراً لا مفر منه، خاصة بالنظر إلى سعي کل منهما بإستمرار لتوسيع نفوذهما الجغرافي والاستراتيجي ومصالحهم الوطنية.
وعليه، فمن المرجح أن تتوسع المصالح والطموحات الأساسية للصين مع توسع قوتها الاقتصادية والدولية، ومع ذلک، فإن نوايا الصين واستعدادها لاستخدام هذه القوة ليست محددة سلفًا، ولا يمکن التنبؤ بها في المستقبل القريب. ذلک لصعوبة تحديد الخيارات التي تتخذها الدول الأخرى فيما يتعلق بالصين، وکذلک، عامل الجمهور الصيني والذي لديه حساسية لأي إجراءات خارجية تتخذ ضد البلد.
فلا يمکن للنخبة السياسية الصينية تحمل إستراتيجية تصالحية للنهوض السلمي إذا کان القيام بذلک قد يبدو أکثر من اللازم لحماية مصالح الصين الوطنية وکبريائها، خاصةً في اطار وصف دول أخرى الصين بأنها تهديد أو محرض للتوترات الإقليمية. ومع ذلک، فإن أولوية الولايات المتحدة من حيث الحفاظ على التفوق الأمريکي والمصداقية کضامن أمن إقليمي من المرجح أن تجعل الولايات المتحدة مترددة في إفساح المجال لتأکيد الصين المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي تعتبرها الصين مجال نفوذها التقليدي.
هذا، يمکن أن يؤدي ذلک إلى زيادة الصدام المحتمل بين القوتين العظميين، مع تحول نزاعات بحر الصين الجنوبي إلى نقطة انطلاق. يؤکد "جوزيف س. ناي" أنه على مر التاريخ، عندما تخلق قوة صاعدة الخوف بين جيرانها والقوى العظمى الأخرى، يصبح الخوف سببًا للصراع، حتى مع الأحداث الصغيرة التي تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل غير المقصودة والکارثية ([46]). بمعنى أنه يمکن للمخاوف المبالغ فيها وغير المدارة أن تنتج صراعات حقيقية.
فعلى الرغم من حقيقة أن لکل من بکين وواشنطن، إلى جانب أعضاء الآسيان، مصالح مشترکة في حماية حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي ذي الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية، غير أنه في الواقع، کانت هذه المصالح المتبادلة قوية بدرجة کافية لتلقي بظلالها على الجوانب المدرة للنزاع في الخلافات الإقليمية للصين مع جيرانها أو التنافس الصيني-الأمريکي، الناجم عن سياسات التحالف والشکوک المتبادلة فيما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية لکل منهما في المنطقة.
وعليه، تصبح من الأهمية بمکان أن يجد الجميع طرقاً للإتفاق على حلول سلمية لنزاعات بحر الصين الجنوبي، بما في ذلک حلول: التنمية المشترکة والبنية التحتية المشترکة والاستثمار المنسق، وکذلک اللجوء للتحکيم الدولي. على الرغم من تعدد المقترحات السلمية حول حل نزاعات بحر الصين الجنوبي، إلا إنها لن تؤتي ثمارها ولن تکون ذات فعالية إلا إذا کان جميع الأطراف تهتم بالتوفيق بين أهدافهم عن طريق تقديم بعض التنازلات، وتغيير وجهات النظر حول أولوياتهم.
من بين الخطوات الهامة نحو تسوية نزاعات بحر الصين الجنوبي، بذل الجهود لتهدئة الشکوک المتبادلة فيما يتعلق بالنوايا الإستراتيجية للدول وبعضها البعض، والسيطرة على القومية المتصاعدة في جميع أنحاء المنطقة من خلال الحوار، فالتعامل مع مهمة بناء الثقة ليس کشرط مسبق بل تحدٍ وهدفً نهائي. فإذا تم تحديد أولوية الصين للسعي إلى حل سلمي بدلاً من فکرة توسيع السيادة، واللجوء إلى فکرة استخدام قانون البحار للمساعدة في فصل السيادة عن الاستغلال التجاري والتنمية المشترکة لصيد الأسماک والنفط، سيساهم تعزز مصداقية الصين کقوة محبة للسلام ويبطل فکرة التهديد الصيني.
أضف إلى ذلک، يتعين على الصين أن تسعى لتحقيق سياسة اللجوء السلمي لحل الخلافات بشکل واقعي، وليس فقط من خلال الخطابات. فعلى المستوى الخطابي، أشادت بکين مراراً بعزم "النهوض السلمي" ومفهوم الأمن الجديد للترتيبات الأمنية الإقليمية، ومع ذلک، وفي الممارسة العملية، فقد تعاملت بکين بشکل سيئ في إزالة العديد من الحواجز لجعل تلک الرؤية ذات مصداقية. علاوة على ذلک، کانت الصين غير فعالة في تقديم خارطة طريق مفصلة لنوع النظام الإقليمي السلمي الذي تبشر به علانية ([47]).
فبيان بکين الصريح بدعم الحوار مع دول رابطة دول جنوب شرقي آسيا حول اتفاقية مکافحة التصحر، يعد خطوة مهمة إلى الأمام تساهم في خلق بيئة أکثر ملاءمة لتسوية متعددة الأطراف للقضية. ومع ذلک، تحتاج بکين إلى مواصلة المشاورات بينها وبين الآسيان بشأن لجنة مکافحة الإرهاب بطريقة تعزز وتقوي الثقة المتبادلة، من خلال التفاهم المشترک والحل الوسط.
أما بالنسبة لدول رابطة جنوب شرقي آسيا ککل، فهذه هي اللحظة الأساسية لجمع شمل أنفسهم بطريقة تعزز نفوذهم الإقليمي وتنمية قدراتهم على تخفيف مخاوفهم من الصين الصاعدة. في الوقت نفسه، يجب أن تستفيد هذه الدول من الفرصة لتوسيع نطاق علاقاتها المربحة اقتصادياً مع الصين إلى شراکة موثوقة من الناحية الاستراتيجية بدلاً من أن تطغى عليها الطبيعة المطولة لنزاعات بحر الصين الجنوبي.
أما بالنسبة لواشنطن، فالمهمة الأساسية هي توضيح أن محور الدولة في آسيا ليس مصمماً لعبة محصلتها صفر لاستهداف الصين وعزلها، بل للوفاء بدور الولايات المتحدة کمزود موثوق للأمن الآسيوي - لا يزال قوياً بما يکفي للحفاظ على علاقات التحالف الحيوية والحفاظ على التوترات الإقليمية. وفي حالة وجود أي صراع إقليمي على الأراضي المتنازع عليها، تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية الدفاع عن حليفتها القديمة، الفلبين، ودعم شرکائها الإقليميين مثل إندونيسيا وماليزيا. فإن القيام بخلاف ذلک من شأنه أن يقوض مصداقية أمريکا، ليس فقط في جنوب شرقي آسيا، ولکن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأماکن أخرى.
نتائج الدراسة
في اطار هذه الدراسة، فقد خلصت الباحثة إلى عدد من النتائج التي تتناولها فيما يلي:
-يحظى بحر الصين الجنوبي بأهمية استراتيجية ببسبب وقوعه جغرافيّاً في نقطة إلتقاء طرق المواصلات البحرية الأکثر کثافة في العالم، حيث تمر عبره نصف التجارة الدولية التي يؤمل بأن تزداد مستقبلاً بشکل مکثف، کما يتمتع بإمکانات سکانية واقتصادية کبيرة. بالإضافة إلى الإمکانات النفطية والغازية في أعماقه. کما يعتبر أقصر الطرق التي تصل بين المحيطين الهادئ والهندي، فضلاً عن کونه يمتاز بوجود أکثر خطوط الملاحة ازدحاماً بحرکة السفن في العالم. إذ أن نصف ناقلات النفط العالمية يمر عبر هذا البحر، وأغلبية هذه الناقلات تحمل المواد الأولية کالنفط الآتي من الخليج العربي إلى دول جنوب شرق آسيا.
-هذه الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي، دفعت القوى الکبرى للإهتمام به وترى ضرورة حمايته من أي قوى أخرى، إقليمية أکانت أم دولية. حيث کان التخوف من وجود قوى تتسبب في تعطيل حرکة الملاحة فيه، لارتباط ذلک بإمکان الضرر باقتصادها واقتصاد المنطقة عموماً.
-هذه الأهمية الاستراتيجية دفعت دول الإقليم التي تتشکل منه، إلى السعي نحو إبراز حقها في مياهه الإقليمية بالطريقة التي ترى أنها تضمن مصالحها الاستراتيجية العليا، وهو ما قاد بالضرورة إلى حدوث اختلاف في وجهات نظرها وادعاءاتها الخاصة بتحديد المياه الإقليمية، مما أدى إلى تعقيد الوضع الجيوبوليتيکي في الإقليم.
-أصبحت نزاعات بحر الصين الجنوبي نقطة جوهرية في التنافس الأميرکي - الصيني في غرب المحيط الهادئ. الأمر الذي أدى إلى اهتمام صناع القرار الأميرکي بهذه المنطقة، حيث تصاعدت أهميته منذ نهاية الحرب الباردة، ومنذ توجه الصين إلى بناء قدراتها الدفاعية والتسليحية، بما فيها قدراتها البحرية التي بدأت تتخذ من هذا البحر مجالاً لحرکتها، لذا تجد الإدارة الأميرکية نفسها اليوم أمام تحد جيوبوليتيکي يهدد مستقبل وجودها ومصالحها في هذا البحر، الأمر الذي يؤکد أن بحر الصين الجنوبي سيکون واحداً من النطاقات الجيوبوليتيکية الساخنة التي يتوقف عليها مصير العالم.
-من المهم تبني الحقيقة المتمثلة في أن تشجيع ضبط النفس من جميع الأطراف وحل هذه النزاعات بالطرق السلمية سيکون في مصلحة أمريکا. فبالنظر إلى المعطيات الواقعية، قد يکون للتدخل الأمريکي المباشر نتائج عکسية، نظراً لخطر الإضرار بعلاقاتها -البالغة الأهمية- مع الصين بإسم الدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها حتى لو کانت الإجراءات الصينية لا تهدد بشکل مباشر المصالح الأمريکية الأساسية، بما في ذلک حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي. ومع ذلک، يجب على واشنطن بناء اهتمام وثيق لتصور بکين للتراجع الأمريکي، والحفاظ على قوتها الشاملة من أجل الحفاظ على علاقات صحية ومتوازنة مع الصين الناشئة.
-على الرغم من أهمية التعاون الصيني-الأمريکي في مواجهة عدد من المشکلات العالمية، فإن تلبية مطالب الصين بشکل مفرط قد يأتي بنتائج عکسية، لأن القيام بذلک يمکن أن يغذي –لدى ادارة بکين- عن ضعف صورة العالم الخارجي، الأمر الذي قد يدفعها نحو بذل المزيد من الجهد لتحقيق طموحاتها التوسعية. وبالتالي، تحتاج الولايات المتحدة إلى مواصلة مشارکتها في آسيا بشيء من القوة في دبلوماسيتها -ليس بالضرورة لإثارة الصين- ولکن لتعزيز الردع لمواجهة توسع الصين، وإقناع بکين بأنه لا يوجد شيء يمکن کسبه عن طريق استخدام القوة اذاء جيرانها. وفي ظل هذه الظروف، من الضروري للولايات المتحدة أن تجد التوازن الصحيح بين الاطمئنان لدى حلفائها من إلتزام واشنطن بالاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والحفاظ على سياسة أمريکا العملية المتعلقة بالتواصل مع بکين لحماية مصالح الولايات المتحدة دون استغلال قلق بکين. هذا سيتطلب من الولايات المتحدة اتباع نهج دقيق –استراتيجياً- للحفاظ على مصداقيتها بإعتبارها أهم موازين القوة في آسيا، مع بذل الجهود في نفس الوقت لتهيئة بيئة يتم فيها دمج الصين کجزء أساسي من المجتمع الإقليمي. مثل هذا النهج سوف يتطلب توازنا دقيقاً من إدارة التحالف من جهة والمشارکة العملية والحيوية مع بکين من ناحية أخرى.
خاتمة الدراسة
ان مستقبل صعود الصين مفتوح العضوية، وهو ليس سيئاً بالضرورة. بمعنى أنه لا يزال من الممکن تشکيل المستقبل ليصبح أکثر سلمية وتعزيزاً متبادلاً. هذا الأمر يمکن أن يبرز الواقعية العملية في الصين، التي تسعى جاهدة إلى الظهور ليس کتهديد، بل عضو قوي، لکنه محترم وفخور في المجتمعات الإقليمية والدولية.
لا يزال يمکن تحويل القضية المحددة لنزاعات بحر الصين الجنوبي، على الرغم من أنها تعتبر نقطة اشتعال جيوسياسية رئيسية، إلى فرصة لخلق مستقبل أفضل، خاصةً إذا کانت الصين تريد أن يتم الاعتراف بها ليس فقط کقوة صاعدة، ولکن أيضاً کقائد محترم في آسيا وخارجها، يجب على ادارة بکين ألا تفوت هذه الفرصة لتخفيف التوترات المستمرة عن طريق تخفيف مخاوف جيرانها بشأن توسعها العدواني ومن خلال تعزيز شمولية الفوائد التجارية على مستوى المنطقة والشراکات الاستراتيجية.
يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل بجد لتعزيز علاقتها الاستراتيجية مع الصين، حتى في الوقت الذي تسعى فيه جاهدة للحفاظ على تفوقها العسکري والحفاظ على توازن القوى الإقليمي لصالحها. مثل هذا النهج الحذر وغير المتناسق على ما يبدو لن يعکس بالضرورة تباين سياسة واشنطن في آسيا، بل سيکون دليلًا ملموساً على حقائق الترابط الأمريکي المعقد مع الصين والدول الأخرى في المنطقة.
مواجهة خطر الصراع وأهمية الحد من التوترات الجيوسياسية على بحر الصين الجنوبي، دعا العلماء والقادة العالميون على حد سواء إلى بناء الثقة الاستراتيجية، بناءً على نوع جديد من علاقة القوة الرئيسية بين بکين وواشنطن ([48]). حيث يؤکد "هنري کيسنجر" على ذلک فلا ينبغي اعتبار ظهور الصين المزدهرة والقوية "بحد ذاتها هزيمة إستراتيجية أمريکية بالنظر إلى الطبيعة غير الصفرية لعلاقاتهما الثنائية في القرن الحادي والعشرين. فإن التعامل مع الصين الصاعدة على أنها ضارة بالسلام الإقليمي، مع رؤية التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي بإعتبارها انعکاساً لطموحات بکين التوسعية، أو استنتاج أن العلاقات الصينية الأمريکية ستتبع الحلقة المفرغة لصعود وسقوط القوى العظمى، فتبني مثل هذه الأفکار سوف يعزز من موضوعات سباق التسلح، ويزيد من تفاقم المعضلة الأمنية.